بالتزامن مع زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي لتايوان، أعلن السودان أنه يؤيد مبدأ “صين واحدة”، مبيّناً أن تايوان “جزء لا يتجزأ من بكين” ولافتاً إلى دعمه دفاع الأخيرة عن سيادتها ووحدة أراضيها. وعلى الرغم من العراقيل الأميركية التي حالت خلال الفترة الانتقالية دون تبلور تعاون سوداني- صيني واضح، إلا أن الفترة ذاتها لم تخلُ من بعض المبادرات. ومن خلال تثبيت العلاقة بين البلدين عند مستوى معين، أعاد الصراع بين الولايات المتحدة والصين إلى الواجهة تحديات تتمثل في مقدرة السودان على احتواء موقفه المعلن بهدف الحفاظ على التقارب مع الطرفين في وقت واحد في ظل شروط كل منهما، مع عدم إغفال الغضب الصيني وعدم تسامح بكين بخصوص محاولات التعامل مع تايوان خارج نطاقها، إضافة إلى انعدام الثقة القائم منذ فترة طويلة بين البلدين والخلافات بينهما.
وتعرضت العلاقات الصينية السودانية لبعض الفتور منذ إطاحة النظام السابق، الذي شهدت عقوده الثلاثة تولّي أربعة رؤساء الحكم في الصين وهم يانغ شانغ كون وجيانغ زيمين وهو جينتاو وشي جينبينغ، كما شهدت تولّي بكين تنقيب واستكشاف النفط في السودان منذ تسعينيات القرن الماضي. وتراجع التعاون بين البلدين بعد انفصال جنوب السودان وإعلانه دولة مستقلة عام 2011، وذهاب نحو 75 في المئة من نفط السودان وعائداته إلى الدولة الحديثة، وارتفاع ديون الصين لدى الخرطوم نتيجة للقروض المتراكمة والدخول في مشاريع استثمارية لم تستطِع الوفاء باستحقاقاتها، ولكن منذ الإجراءات التي فرضها الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، شاركت بكين إلى جانب موسكو في التصويت على قرارات مجلس الأمن الدولي لصالح الخرطوم، إذ أبدتا معارضتهما إدانة الانقلاب العسكري في السودان وأن الوضع هناك شأن داخلي لا يهدد الأمن الدولي.
المبادئ الخمسة
يحتفظ السودان بعلاقات دبلوماسية وتاريخية قوية مع جمهورية الصين الشعبية، استمرت وتنامت بين “الحزب الشيوعي الصيني” و”حزب المؤتمر الوطني” الحاكم السابق في البلاد. وكان من ضمن الشروط الواضحة والثابتة منذ مؤتمر باندونغ عام 1955، المضي بالعلاقات وفقاً للمبادئ الخمسة للتعايش السلمي، وهي “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والمساواة والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمي واحترام سيادة الدول وحل النزاعات بالطرق السلمية”، حتى إنها أدرجت تلك المبادئ بصورة رسمية في “دستور جمهورية الصين الشعبية” لتكون الركائز الأساسية في ممارسة سياستها الخارجية. استدعى هذه المبادئ، وزير الخارجية السوداني المكلف علي الصادق في بيان تأييد بلاده لموقف بكين من زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان بأن “السودان ظل يحتفظ منذ إنشاء التمثيل الدبلوماسي مع جمهورية الصين الشعبية، بعلاقات تعاون سياسي واقتصادي ودبلوماسي متميزة، ويتبادل البلدان المنافع والمصالح المشتركة، كما يتبادلان الدعم والمساندة في المحافل الإقليمية والدولية”.
ظلت الصين شريكاً اقتصادياً بديلاً للسودان عن الولايات المتحدة التي فرضت عقوبات عليه في منتصف التسعينيات. وفي ظل تمسكها بسياسة “صين واحدة”، ولكي تضمن استمرار دعم السودان لها في هذا الشأن، عملت بكين على توسيع نطاق قوتها الناعمة واستثماراتها داخل البلاد، فأنشأت عدداً من المشاريع في قطاعات التعدين وصلت إلى نحو 12 شركة، والزراعة في مناطق الجزيرة والقضارف وشرق السودان والصناعة، وفي مجال الثروة الحيوانية بإقامة عدد من المسالخ، كما نشطت في مشروع “مكافحة الفقر” وفق قروض من دون فوائد وقروض ميسرة ومنح، ولكن المشروع تعثر بعد ذلك. أما الاتفاق النووي للأغراض السلمية مثل مجالات الطب والتوليد الكهربائي، الذي وقع في مايو (أيار) 2016، فلم يرَ النور إلى الآن.
عاد البلدان في 16 أكتوبر 2020 إلى التعاون مرة أخرى بتوقيع 10 اتفاقيات للتنقيب عن الذهب والمعادن، وكانت شركة “وانبو” الصينية ضمن الشركات الأجنبية التي حصلت على مربعات امتياز من جملة المساحات الصالحة للتعدين التي تصل إلى مليون و800 ألف كلم.
التسوية على تايوان
في الواقع، لم يشذ موقف السودان عن مواقف عدد من الدول بما فيها الولايات المتحدة التي تلتزم مبدأ “صين واحدة” منذ عام 1979. في كتابه “خيار الصين… لماذا على أميركا أن تتقاسم النفوذ؟”، أشار الأستاذ في جامعة أستراليا الوطنية هوغ وايت إلى أن الاتفاق الصيني – الأميركي الذي عقد في شنغهاي عام 1972، حمّل الولايات المتحدة كلفاً حقيقية وفوائد هائلة في الوقت ذاته بتغيير سياسة واشنطن تجاه الصين، والاعتراف بالشيوعيين الصينيين كحكومة شرعية للصين، إضافة إلى التسوية مع بكين على تايوان وفق منهج المعالجة الدبلوماسية التي بدأت في نهاية عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين نتيجة لتطور العلاقات الأميركية – الصينية، ما دفع بكين إلى التراجع عن تصعيد قضية تايوان والتخلي عن احتمال استعمال الأسلوب العسكري لحسم الوضع القائم.
بعدما تحسنت العلاقات الدبلوماسية الصينية مع واشنطن عام 1987، وتأكيد الولايات المتحدة على سحب جميع القوات والمنشآت العسكرية الأميركية من تايوان، صدر بيان من الجانبين الصيني – الأميركي بخصوص تايوان، تضمن موافقة الحكومة الأميركية على الشروط الصينية وهي إنهاء العلاقات الدبلوماسية بين واشنطن وتايوان وإلغاء معاهدة الدفاع المشتركة التي أبرمت عام 1950 الخاصة بالدفاع الجوي والبحري عن تايوان ضد أي هجوم تقوم به الصين الشعبية، وسحب القوات العسكرية الأميركية من تايوان، واعتراف الولايات المتحدة بوجود “صين واحدة” وأن تايوان جزء منها، وأن حكومة الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية، واستمرار العلاقات التجارية والاقتصادية بين الولايات المتحدة وتايوان.
مرحلة الصمت
في يونيو (حزيران) 2019، فشل مجلس الأمن الدولي المنعقد بطلب تقدمت به ألمانيا وبريطانيا، في إصدار قرار يدين “المجلس العسكري الانتقالي السوداني” إثر مقتل عشرات المدنيين خلال فض قوات الأمن السودانية الاعتصام في ميدان القيادة العامة للقوات المسلحة، وذلك بسبب اعتراض الصين مدعومة من روسيا على النص المقترح، فيما شددت موسكو على ضرورة أن ينتظر المجلس رداً من الاتحاد الأفريقي. واكتفت ثماني دول أوروبية هي بلجيكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبولندا وهولندا والسويد بإصدار بيان مشترك قالت فيه إنها “تدين الهجمات العنيفة في السودان من جانب أجهزة الأمن السودانية ضد المدنيين”.
وفي جلسة خاصة أخرى في مجلس الأمن بشأن السودان في الثامن من يناير (كانون الثاني) الماضي، طلبت عقدها ست من أصل 15 دولة عضو في المجلس، هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والنرويج وإيرلندا وألبانيا، عممت أميركا المشروع الأولي على مجلس الأمن الدولي في ما يتعلق بالجزاءات المفروضة على السودان، وعقدت جولتان من المفاوضات الرسمية بشأنه في الأول والثامن من فبراير (شباط) الماضي.
وبحسب الأمم المتحدة، فإن “الصين وروسيا تجاوزتا مرحلة الصمت بخصوص المسودة الموضوعة تحت إجرائه، وبعد تنقيحها صدر القرار 2620 (2022) بالإجماع، وهو يقر بأن الحال في السودان لا تزال تشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين في المنطقة، ويأتي بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ليمدد ولاية فريق الخبراء المعين أصلاً بموجب القرار 1591 (2005) حتى 12 مارس (آذار) 2023”.
فك الارتباط
كان فك الارتباط الأميركي بمجرى الأمور السياسية في البلاد عقب إجراءات البرهان في 25 أكتوبر بمثابة مهدد لعلاقات السودان الدولية، تجلت في رصد ميوله سواء كان بدافع المصالح أو المشتركات التنموية أو السياسية، أو المقارنة بين أداء وزارة الخارجية الآن وفي عهد النظام السابق، وفق ما يرى ناشطون سياسيون أن علاقات السودان بعد الثورة ينبغي أن تتغير على نحو جذري. وبما أن الولايات المتحدة بإمكانها التحكم في هذه العلاقات من خلال العقوبات أو إيقاف المساعدات، أو دفع السياسيين إلى انتقاد سلوك الحكومة الانتقالية الخارجي، فإن التصور الأبرز في هذه الحال هو أن فشل السودان في تلبية السياسات الأميركية سيقود إلى إعادة البلاد إلى العزلة من جديد.
لوضع خطوات السياسة الخارجية السودانية في موضعها الصحيح في أولى خطواتها بالحكومة الانتقالية، ثم حكومة ما بعد الثورة بعد انتهاء هذه الفترة وقيام الانتخابات، لا ينبغي التقليل من شأن الإنجازات الاقتصادية التي حققها السودان في فترة الحظر الأميركي بمساعدة الصين، وذلك على الرغم من الكلفة العالية نتيجة ممارسات النظام السابق وسياساته التي مهدت لدخول الصين إلى السودان للتنقيب واستكشاف النفط، ولم تكُن علاقات الأخيرة مع الأولى سبباً في التنفيس عن التوترات بين واشنطن وبكين. النظرة الأميركية إلى السودان على أنه دولة مارقة أوقعت بها عقوباتها الدولية منفصل تماماً عن كون السودان جزءاً من القارة الأفريقية وضمن دول شكلت ساحة للتوغل الصيني في القارة السمراء. وفعلياً كانت الولايات المتحدة في تلك الفترة مشغولة عن أفريقيا تدير حروبها في الشرق الأوسط والعراق وأفغانستان وغيرها، وذلك ما شجع الصين على ملء الفراغ الاستراتيجي ولم يكُن تنافساً فعلياً بين القوتين.
رهان على الغرب
القوى السياسية التي احتلت دكة المعارضة حالياً وأبرزها “قوى إعلان الحرية والتغيير”، كانت تراهن في فترة حكومة حمدوك الأولى على الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة، بأن الحاجة ماسة إلى دفع وتوجيه واشنطن للعلاقات الخارجية السودانية. وبعد الانسحاب التدريجي لدور الولايات المتحدة والغرب، راحت هذه القوى تحمّل مجلس السيادة الانتقالي والمجلس العسكري نتيجة فتور العلاقات وإيقاف المساعدات وتردد الولايات المتحدة في حث “أصدقاء السودان” على تخفيف الديون عنه. ولذلك، تتعالى الأصوات المعترضة على علاقات السودان الخارجية في هذه الفترة، وتفترض أن أي دولة على علاقة طيبة مع الحكومة الانتقالية الحالية، هي مع بقاء العسكر وتمهد إلى عودة النظام السابق. وهذه وسيلة للاعتراض جرّبها معارضو النظم السياسية المحسوبون على الغرب في السودان في كل العهود، بينما هناك أصوات أخرى ترى أن تكون علاقات السودان الخارجية مفتوحة ومتوازنة وتراعي المصالح الوطنية بتطوير العلاقات مع الشرق أيضاً، خصوصاً مع حلفاء السودان مثل الصين وروسيا.
خيارات ضيقة
كانت علاقات السودان مع الصين في ظل النظام السابق التي انتعشت خلال تسعينيات القرن الماضي تعتمد على مبدأ التعاون والمصلحة المشتركة، بدأت ضمن الدبلوماسية التعاونية المنفتحة التي قادها دينغ شياو بينغ، ولكن الآن حدث تحول في السياسة الخارجية الصينية، في عهد شي جينبينغ الذي اعتمد دبلوماسية “الذئب المحارب” ضمن استراتيجيته للسياسة الخارجية “دبلوماسية الدولة الرئيسة” منذ عام 2020، وتوصف “دبلوماسية الذئب المحارب” بأنها “دبلوماسية عدوانية تتوسم العداء من الغرب وتعتمد على المواجهة والقتال”، ولا تتردد في إدانة من ينتقد سياسة الصين ومن ضمنها قضية تايوان، ولو أن هذه القضية ظلت محورية عند كل الزعماء الصينيين ومقياساً عالي الحساسية لعلاقات الصين مع غيرها من الدول.
الآن السودان ليست لديه خيارات تؤهله لاستعداء الصين لصالح الولايات المتحدة التي ستجد أكثر من تبرير للاستمرار في التعاطي المتردد والسلبي مع الشأن السوداني، خصوصاً مع احتمال تغيّر الاستراتيجية الصينية تجاه السودان بأكثر مما تم بعد استقلال دولة جنوب السودان، وإن كانت من قبل اقترحت، على مضض، توسيع “التعاون الودي” شاملاً تعميق الروابط السياسية وزيادة التعاون التجاري والاقتصادي وتعزيز التبادلات الشعبية والتعاون في القضايا الدولية والإقليمية، فإن اعتبار مبدأ “صين واحدة”، سيظل عنصراً أساسياً في السياسة الخارجية الصينية التي ترى أن على جميع الدول الاعتراف بالصين فقط وتايوان كجزء منها.
مني عبد الفتاح
إندبندنت عربية