بروفيسور/عثمان ابو زيد: ليس بدعًا

استنكر بعض أهل السياسة أن يتصدر مبادرة (نداء أهل السودان للوفاق الوطني) الشيخ الطيب الجد ود بدر، وزعموا أن أمثال ود بدر مكانهم (المسيد) و(التبروقة)!
هذا رأي تنقصه الكياسة، وتفكير غير سديد يتبدد عندما نحيله إلى تاريخ السودان، أو بالنظر في نماذج الانتقال الديمقراطي في بعض الدول الإسلامية التي كان لعلماء الدين فيها شأن وأي شأن…
أهدى الدكتور عمر فضل روايته (تشريقة المغربي) للشيخ إدريس ود الأرباب، وكتب عنه كلمات نفيسة أتخيّر منها: “الفُونْج والعبدلاب ومن تحتهم من القبائل والممالك والمشيخات كانوا محتاجين أن يتوحدوا تحت سلطان واحد في دولة قوية ذات سيادة. لكن ذلك لم يحدث بعد خراب (سُوبَا) وسقوط عَلَوَة حتى جمعهم الأرباب «إدريس ود محمد» في بُتْرِي الشَّرْقِيَّة بعد خمس وعشرين عاماً من سقوط (سُوبَا) لما جاء الملك «عِمَارَة ود عدلان» وجاء الشيخ «عبد الله جَمَّاعْ» فالتقيا هناك.
الأرباب «إِدْرِيسْ» وحَّدَهُم ثم أعلن عن تلك الوحدة وقيام الدولة من مسيده في (بُتْرِي الشَّرْقِيَّة) أولَ أيام عيدِ الأضحى في يوم الأحد العاشر من ذي الحجة عام 935هـ – الموافق للخامس عشر من أغسطس عام 1529م وذلك بعد خمس وعشرين عاماً من سقوط (سُوبَا)…
وتقوم السلطنة ويعلن اتحاد الفُونْج والعبدلاب من مسيد الأرباب الذي يصبح من بعد ذلك هو المرجعية الدينية لسلاطين الفُونْج والعبدلاب معاً، يأتونه لفض النزاعات ولتكون له كلمة الفصل فيها لا يُرَدُّ كلامُهُ ولا تُنْقَضُ أَحْكَامُهُ.
وعندما يعرض عليه الملك «بادي بن رباط» نصف ملكه يرفضه ويطلب أن يكون له الفصل في المنازعات. الملك «بادي» يتكلم باسم الفُونْج وباسم العبدلاب معاً فيعرض على «إِدْرِيسْ» نصف (دار العسل والبصل) ويريد أن يمنحه كركوج وسنجة ودار الشايقية ودنقلا. لكن «إِدْرِيسْ» يقول بصدق العلماء وزهد الأتقياء:
– الدار دار النوبة والأطيان أطيان النوبة وأنتم غصبتموها منهم. أنا لا أقبلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ ظَلَمَ مِنْ الْأَرْضِ شَيْئًا طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ”.
وعندما يرى «إِدْرِيسْ» ذهول السلطان من هذا الرفض الحاسم يعرض عليه عرضاً بديلا لا يستطيع السلطان أن يرفضه فيقول له:
– أعطوني الحَجْزَ في كل شيء، والوَسَاطة وفَضَّ المُنَازَعَات والصُّلْحَ بين المتشاجرين .
فيعطيه السلطان الحجز في كل شيء كما طلبه، ويصبح «إدريس» هو صاحب فض المنازعات لدى ملوك سِنَّارْ. ثم يجمعهم على الفقه والقضاء المالكي وينصح السلطان «عِمَارَة» بتقريب العلماء والفقهاء. (انتهى)
هذا مثال وأنموذج من تاريخ السودان لاضطلاع القيادات الدينية في إصلاح السياسة.
وإليكم أنموذجًا آخر:
لما أرادت المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات ومقرها في السويد التحاور مع قيادات سياسية لها إسهام في الانتقال الديمقراطي في بلادها، اختارت بروفيسور يوسف حبيبي، وهذا اختيار دقيق. والرجل محسوب في القيادات الإسلامية، ذلك أنه ترأس رابطة المثقفين المسلمين.
في إندونيسيا عرفٌ شائع يميز بين العلماء والمثقفين، فالعلماء هم يتعاطون العلوم الشرعية، أما من كان قائدًا دينيًا ويكون تخصصه غير شرعي فيحسبونه في المثقفين. لذا توجد عندهم رابطة للعلماء ورابطة للمثقفين.
حظيت بلقاء البروفيسور يوسف حبيبي في جاكرتا عام 2016، ولمست زهده في النفوذ السياسي. لم يكن له مأرب شخصي في السياسة عندما وجد نفسه رئيسًا للبلاد. ودعنا نسمعه يتحدث إلى مندوب المؤسسة الدولية للديمقراطية عندما سأله عن سر نجاحه مع أنه لم يملك مصدر دعم من الجيش أو الأحزاب: “الشيء الوحيد الذي كنت أملكه هو ذكائي والعزم على ألا أصبح رئيسًا للجمهورية أو نائبًا للرئيس”.
عندما قامت الثورة على سوهارتو كان حبيبي نائبًا للرئيس، وبعد تنحي الرئيس صار هو بموجب الدستور رئيس البلاد. وكان سوهارتو قد ثبَّت في مرسوم استقالته (فيتو) للجيش باتخاذ أي إجراء يراه ضروريًا لمصلحة الأمة في حال تعرض البلاد لأزمة سياسية بما في ذلك الإطاحة بالرئيس.
ومن التجارب التي يراها المراقبون ناجحة في الانتقال الديمقراطي بالدول الإسلامية تجربة السنغال.
جاء في كتاب الإسلام والديمقراطية لجون اسبوزيتو وآخرين أن الجماعة الدينية في السنغال ساعدت في الانتقال الديمقراطي، ودورها مقدم على دور الجيش والنخب المثقفة. يذهب الكتاب إلى أن رؤساء الجماعات الإسلامية هم العنصر الرئيسي الثاني في تشكيل السياسة السنغالية بعد المجموعات الاثنية. وكان للطرق الصوفية مثل التجانية والقادرية دورها في توحيد الشعب في مؤسسات تعلو فوق الانقسامات القبلية والسياسية. وابتعدت هذه الطرق الصوفية عن مباشرة السياسة البحتة (بيور بوليتكس) واكتفت بتوجيه السياسة من خلال نفوذها وتقديم الدعم الشعبي للأحزاب والسياسيين. وكان مما لا يُستغرب أن يزور الرئيس سنغور (روم كاثوليك) مشايخ الطرق ويطلب دعمهم!
لم يكن دور القيادات الدينية في الإصلاح السياسي قاصرًا على الدول الإسلامية وحدها، بل كان لهم دور إيجابي في دول أخرى. أنقل هذه الفقرة من كتاب تجارب التحول إلى الديمقراطية (ص 660): “غالبًا ما تؤدي المؤسسات الدينية دور القلاع والحصون للأنظمة الاستبدادية، ولكنها في أواخر القرن العشرين عملت في بعض الأحيان على تعزيز الديمقراطية، ولا سيما في البلدان الكاثوليكية مثل إسبانيا والبرازيل وشيلي والفلبين وبولندا”. ويستعرض الكتاب أدوار الكرادلة من أمثال: راؤول سيلفا، وخوان فرانسيسكو في شيلي، وباولو في البرازيل، وفيسنتي في إسبانيا، وجايمي سين في الفلبين، والبابا يوحنا بولس الثاني في بولندا، وديزموند توتو في جنوب إفريقيا.
ويستفيض الكتاب في ضرورة إشراك السلطات الدينية الإسلامية في الإصلاح السياسي ودعم الانتقال للديمقراطية.
وتحضرني الآن ما صارت تفعله منظمة الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة بجمعها القيادات الدينية في العالم مسيحيين ومسلمين ويهودًا وغيرهم في حوار موازٍ لمؤتمرات الحكومات، يناقشون المعضلات والتحديات التي تواجه العالم في شؤون الصحة والمناخ والحروب.
وأخيرًا نتساءل: بأي حق يعترض بعض السياسيين دخول القيادات الدينية في معترك السياسة يعملون على رأب الصدع وإصلاح ذات البين السياسي؟
أحرامٌ على بلابله الدوح
حلال للطير من كل جنس؟!

بروفيسور/عثمان ابو زيد

Exit mobile version