عادل عسوم
(هذه رؤية فلسفية، واستلهام للسيرة النبوية الشريفة).
كم أجد نفسي وقّافا بين يدي هجرة نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه وآله وما اكتنفتها من أحداث وأنا أصوب بصري الى أرض الشام وأهلها، وفي الخاطر آية كريمة لها من المعاني والمباني الكثير المثير…
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} 100 النساء
قد يتساءل القارئ ويقول:
ماهو الرابط بين هجرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ومراغم أهلنا السوريين اليوم؟!
الإجابة هي:
ماكانت هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم قصة تحكى، ولا كانت تأريخاً يؤرخ به فقط، إنما هي أقدار للّه؛ جعل مبتدرها في مكة والمدينة وصلا بمسار الحياة من بعد الفتح لهجرات تحمل من المضامين الكثير، عمرانا للأرض، وإراءة لآياته ودينه الذي ارتضى في الآفاق سُوْحَاً وفضاءات.
تذكرت آية المراغم هذه يوم رأيت -ومعي كثر- صورة جثمان الطفل السوري الكردي الذي قذفت به الأمواج على شواطئ تركيا وقد غرق ضمن مهاجرين ميممين صوب الشواطئ اليونانية.
حاش لله أن يكون ظلاما للعبيد، إنما هو جل في علاه أرأف بنا من الأم بوليدها، وهو كذلك أقرب لنا من حبل الوريد، إنها أقدار الله وحِكَمَهُ التي تعجز عقولنا القاصرة المحدودة عن الإحاطة بها وإن بلغت البشرية مابلغت من ذرى العلم واسباب المعرفة للماورائيات، ولنا في قصة الرجل الذي اتى من اقصى المدينة، قال عنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال الله له: ادخل الجنة، فدخلها حيًّا يرزق فيها وقد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها، فلما أفضى إلى رحمة الله وجنته وكرامته {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} 26 يس.
انساه النعيم الذي وجده كل الظلامات التي وصلت حد القتل!…
وكذلك احسب كل نفس تصعد إلى ربها مؤمنة به في معسكرات النزوح او اللجوء اذ الله تعالى حسيبهم.
ومافتئت الهجرة الشريفة وآية الهجرة في الخاطر تترادفان وتسفران عن محيّاَ وجبين كلما نَبَى إلى الأذن خبرٌ لنزوحٍ لمسلمين أو لجوء هنا اوهناك، نزوح في ذات الديار أو لجوء إلى أرض لله أينما كانت، والنزوح واللجوء في مبتدئه ومنتهاه ليس إلاّ هجرة وان اختلفت التفاصيل وتغير الزمان وانتصرت رُقَعُ المكان وتباينت وجوه الشخوص…
أقول ذلك وفي الذاكرة عظماء كُثُر أسهموا إيجابا في حراك البشرية على هذا ظهر هذه الأرض، بل أسهم البعض منهم في تغيير مسار التأريخ الإنساني بعد أن جاؤوا وتجذروا في الأمكنة ولم يكن لهم وصل بأهله من قبل،
كل أولئك ما كان لهم أن يفعلوا ذلك إن لم يهاجروا إلى مراغم أخرى يتخذونها وطناً وملاذا دون الذي ولدوا ونشأوا فيه…
والأمر عندي ليس مرهون بتعريف للهجرة المنتهية عند فتح مكة، إنما هي هجرةُ الدَّفعِ بالناس بعضُهُم ببعضا…
فهذا الدين الخاتم ماكان له أن يُقْعِي بأهله في مكان بعينه ليذوي، إنما تأتيهم أقدار الله فتجعل من عباده كما بذور أشجار الصنوبر تتناثر في الهواء فتَقِرَ في أرض جديدة لتنمو فيها لتصبح نبتا يانعا وأشجارا أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء…
لعمري لهذه هي هجرة (الفتح) لهذا الدين طُرّا…
بأبي أنت وأمي وذاتي يارسول الله يوم ناديت الصديق وقلت:
إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة، فقال لك الصديق الرفقة الرفقة يا رسول الله…
يومها اترعت قصبة يراع التأريخ بحبرٍ كثيف وشرع السنان يكتب على صحائف الزمان أحرفاً اعلم يقينا بأنها لم تُخْتَتَمّ بعد…
اقرأوا بالله عليكم هذا السياق المفعم بالايمان والريان بعنفوان الفكرة، ودثاره الروح الناشدة للوضاءة وقد كتبه خالد الحرف والسياق في مصر عام 1948 حيث قال خالد محمد خالد:
(كان السادة والعبيد طبقتين، وانبثق من ضمير الصحراء الساجية رسول كريم، جاء يدق أجراس المساواة، ويحطم أغلال الرقيق وقاد أبو جهل المعركة ضد الحرية، ولكل أمة أبو جهلها، وذهب وفد الضالين يوما للرسول وتقدم الوليد يسأله: يامحمد أجئتنا لتجعلنا وأشباه ابن سمية الذليل سواء؟
فأجابه محمد صلى الله عليه وسلم، نعم ولنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، وبهذه العبارة الثورية أعلن محمد حرية العبيد وسيادة المستضعفين، ومضى يؤكد أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وأن هؤلاء الكبار الذين يتوارثون من آبائهم مناصب البلد وأمجادها لايساوون عند الله جناح بعوضة ماداموا يفقدون الفضيلة النفسية، وانطلقت أحقاد السادة تعوى وتزمجر اقتلوا محمد، اقتلوا هذه الطليعة الناشئة فإن في بقائها فناؤنا.
وهاجر الرسول وصحبه لا فرارا بحياتهم بل فرارا برسالتهم التي يجب أن تبلغ مداها، وعاد محمد إلى مكة يقود جيش الخلاص، ونفذ إلى الأفق البعيد، وراح ينادى أجيال أمته الوافدة وليست أمة المسلمين وحدهم، بل المضطهدين في كل زمان ومكان، وراح يناديهم لاهجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية.
وذات صباح دخل عليه عمر بن الخطاب فوجد الحصير الذي ينام عليه قد أثر فيه جنبه فبكى وقال، يارسول الله أفلا تتخذ لك فراشا لينا؟، فأجابه الرسول في تواضع، أتظنها كسروية ياعمر؟! إنها نبوة لاملك، وان شقاء أمتى يوم يكون فيها كسرى ويكون فيها قيصر.
سيدى أبا الزهراء سلام عليك، الآن عرفت لماذا نذل ولماذا نشقى.
انتهى كلام خالد محمد خالد
(روز اليوسف)
نعم ياخالد، محمد صلوات الله وسلامه عليه لم يهمّ بالهجرة فرارا بحياته، لا ورب الكعبة…
فالأمر إن كان كذلك لما انتظر الحبيبُ صلوات الله وسلامه عليه وآله حتى يأذن له ربُهُ، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه ما كان يود فِراقاً لمكة المكرمة أرض المهد ومستقر الأهل والعشيرة…
ويومها وقف الحبيب صلى الله عليه وسلم على الْحَزْوَرَةِ وبجواره رفيق هجرته الصديق رضي الله عنه وقال وهو يرنو الى أرض مكة:
والله إنك لخير أرض الله وأحب أرضٍ إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني عنك ما خرجت منك.
فداك نفسي وأبي وأمي يارسول الله…
تلك السيوف الأربعون، ودونها سواعد وعقول وعنفوان، ما كان لنا أن نقرأها كغيرها من القصص والحكايات، فالخارج من بين نصالها من قبل أن يكون المعصوم لهو القدوة والمتبوع صلوات الله وسلامه عليه…
وستبقى (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لايبصرون) عاصمة و قاصمة و منجية لكل من أخبت إليك ياربي إلى أن ترث الأرض ومن عليها، وستظل كذلك موئل الزلفى والعروج لكل السالكين لذات طريق الهجرة والوجدان محتشد ومُسَتَّفٌ بهذا الإسلام الخاتم، يفرون إلى الله كانبثاث بذور الصنوبر يحملها الهواء الى أرض جديدة وعوالم للحياة رحيبة…
ولاغرو أن هذا الطريق وان بدا ظاهره (مَهْرَباً) الاّ إنه في أصله وقراره مبتدرٌ ومنتهى، إنه طريق الاخبات لله الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد…
يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين السيوف الأربعين ليواصل الصدع بمنهج الله وإذا بسراقة بن مالك ينطلق في أثره، ويوشك فرسُ سراقة اللحاق برسول الله وصاحبه، ولكن يبقى رسول الله ثابتا وراسخا كالطود لا يهتز، لِمَ كل ذلك؟!
أنه الأخبات لله ياأحباب!
الأخبات إلى خالق السموات والارض ومجري السحاب الواهب ثم القابض للأرواح، وانها لعمري القناعة بمعية الرحمن، معيةٌ أقرب من حبل الوريد، إذ بين يديها وفي رحابها يولد المخبتين…
أبعد كل ذلك يتشدق مَوْتُورٌ بأنّ الهجرة ليست الاّ مهربٌ ومنجاة؟!
لا ورب الأرباب…
ويقترب سراقة بفرسه وقد منّى النفس بحُمُرِ النعم التي وعده أياها قادة قريش، ويستبد به سُكْر الفرح وهو يوشك على نيل مبتغاه، ولايبقى بينه وبين مبتغاه سوى مسافة قصييييرة لاتزيد عن خطوات معدودات يخطوها حصانه، فيهيّئ نفسه للمغنم، ويُخرجُ سيفه من غمده، وتفترُّ شفتاهُ عن بسمة الانتصار، والخيال منه مشغولٌ باستعراض صفوف النوق، ورائحة الخمر تكتنف خيشومه، ومرأى رقص القيان فرحا بالانجاز الكبير الوشيك تلوح له في الآفاق، فكل حسابات الدنيا تقول بأنه قاب قوسين أو أدنى لأن يدرك مبتغاه ويتم مراده، ولكن:
فات عليه -وهو المشرك – أن المشيئة لله الواحد الأحد لا لسواه.
فات عليه -وهو الغافل- أن الله قد أبطل مفعول الاحراق من النار على نبي الله ابراهيم عليه السلام.
فات عليه -وهو المنكر للغيب- أن الله قد أنجى نبيه موسى عليه السلام عندما طمأن قومه قائلا (كلا إن ربي سيهدين) فضرب البحر بعصاه لينفلق وينجلي عن طريقٌ يَبَسٌ فينجيهم الله من فرعون وجيشه…
إنها مشيئة الله لنصرة الخير على الشر منذ الأزل وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإذا بقساوة الصخر تستحيل لينا وعجينة، وإذا بتراب الأرض يصبح طينا لازبا لتصيخ فيه سيقان حصان سراقة ويتوقف عن الانطلاق والمسير،
وأُخِذَ سراقة من حيث لم يحتسب، وإذا به يستبين له أن هناك قوة عظيمة فوق قوته.
وأرادة عظمى فوق ارادته.
ومشيئة لمن خلق السماوات والأراضين ومافيهما من حياة فوق مشيئته ومشيئة قومه من قريش وصناديدها…
وإذا بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم تتغشى وجهه الشريف ابتسامة وضيئة فينادي ويقول:
ياسراقة لا تبتئس، ستلبس سواريْ كسرى بإذن الله!!
ويشهد سراقة بأن لا اله الاّ الله، وأن محمدا رسول الله…
صلى عليك الله يانبي الهدى ماهبت النسائم
وماناحت على الأيك الحمائم…
صحيفة الانتباهة