(1)
التجارب العظيمة لا تنشأ من فراغ، بل تنشأ من تجارب عظيمة أيضاً، ولعل تجربة الفنان محمد ميرغني يمكن وصفها بالتجربة العظيمة لأنها استندت على تجربة الراحل الكبير أحمد المصطفى وكان لها تأثيراتها المباشرة في مساره الفني، وهو لا يتورَّع أن يحكي عن ذلك ويقول بكل فخر بأنه خريج جامعة العميد أحمد المصطفى، كما يحكي هو ذات نفسه ويقول:
(2)
في حي السيد مكي بأم درمان تفتحت مشاعرنا وأحاسيسنا وحلقت أرواحنا في سماوات الإبداع الفني والأدبي والاجتماعي، حيث كان الكروان كرومة والأديب الشاعر دكتور كامل الباقر والشاعر إسماعيل عبد الرحيم الذي كتب أغنية “فؤادي” لأحمد المصطفى وصاحب الإنشاد الشعري الفريد الأستاذ أحمد عمر الشيخ والشاعر الخالد حسن عوض أبو العلا، وكانت أماسينا معطرة بأريج المتصوِّفة الفواح وبالإنشاد والذكر ترتقي الأرواح أعلى درجات السمو .
(3)
جاء أحمد المصطفى وكان التلاقي مع الشاعر حسن عوض أبو العلا، كان أحمد المصطفى فناناً مغنياً كاملاً في صفته، لأن معلمه ألأستاذ محمد عبد الوهاب حاذق ذو طبع تام صحيح الأداء وصفات المغني التي عرفها الحسن بن أحمد بن علي الكاتب المتوفي 625 هـ، تصف الأستاذ أحمد المصطفى وتقول 🙁 الكامل في هذه الصناعة من طرب فأطرب وغنى فأدى وحكى وروى وكان كله بصر بما أتى) إن فنانا الخالد هو الموصوف بهذا الخلال, الطبع والاقتدار والشجاعة والمعرفة، شدَّنا المبدع أحمد المصطفى إليه من خلال هذه المزايا، كان الأستاذ أحمد المصطفى يغني فيصيب ويملأ الألحان بأنفاسه فيستوفى السقم ويحس مقاطعه الطويلة والقصيرة في دراية ومعرفة .
(4)
أحببته منذ نعومة دواخلي وصدق إحساسي الطفولي سرى في وجداننا و سحرنا, أسرنا وجرى فنه فينا مجرى الدم، لازلت إلى اليوم أذكر أول نغماً من صوته وأنا طفل أتسلق أعمدة شباك منزل المرحوم حسن عوض أبو العلا، الكائن بالقرب من منزلنا بحي السيد مكي، وكان يردد ( أنسى الفؤاد يا قاسي وإذ هواي يا ناسي حياني حب ومآسي قاسيت كتير وبعاني ) كانت هذه هي الشرارة الأولى في دوران حركة الإبداع بيني وبين الأستاذ أحمد فكان أن تنسمته شربته حفظته فناً حقيقياً يملأ الجوانح ويسكن الوجدان، علمنا الأستاذ فنون أدب الغناء, علمنا سلوكيات الفنان, علمنا كيف نغني ونختار الغناء علمنا وعلمنا وعلمنا، وعلمني أنا علمني. لك الرحمة والمغفرة أستاذي ومعلمي الرائع.
(5)
أجمل أعمال الملحن الراحل حسن بابكرن كانت من نصيب الفنان محمد ميرغني، فالثنائية التي أسساها إنما بنت في اتجاه تفجير الطاقات اللحنية والصوتية انطلاقاً من كلمات الذين صاغوا تلك الصور الجمالية لمواضيع العشق العاطفي والوطن. واللافت أن حسن بابكر لم يكن ليحوِّج الفنان محمد ميرغني لإعمال الألحان. ولقد أدرك الملحن الكبير المساحة التي يتحرَّك فيها صوت الفنان الكبير وتوفق كثيراً في إظهار خامة، وتطريب صوته، الذي يتراوح بين التينور الأول والباريتون، والحقيقة أن تفضيل محمد ميرغني عدم خوض تجربة تلحين لأشعار أخرى جعله يتفرَّغ لتجويد الأداء. والملاحظ أن عدداً من الفنانين قنعوا أنهم لم يولدوا ليجمعوا بين الموهبة الصوتية والموهبة في إنتاج الألحان الكثيفة.
(6)
ارتبط الملحن حسن بابكر، بثنائية وثيقة مع صديقه الفنان محمد ميرغني، أثمرت عن عدد من الدرر الرائعة، حيث قام بتلحين العديد من الأغنيات له ومنها (اشتقت ليك, حنان الدنيا, عيونك ديل, عشان خاطرنا, سهمك الفتاك, لا بتفاصلي لا بتواصلي, غريب, حالك باهي, حبابن جن, الريدة, سمحة سمحة..الصيدة, ما قلنا ليك, مابتقدر تتوب, لو قدرت تغيب علي, أنا والأشواق, مين فكرك ياحبيب, لو كان عصيت, احترت فيك, ولا الصابر أنا ولا الباكي، بتلفحك، ودرة هواك، أحلى مافي الدنيا ريدنا.
صحيفة الصيحة