للعام العشرين على التوالي، يفاجئ السودان العالم بأنه وطن العباقرة، فقد ظهرت نتائج امتحانات نهاية مرحلة الأساس، فإذا بمئات الطلاب يحرزون الدرجات الكاملة في جميع المواد، والخرطوم التي قدمت للعالم ملوك الفصاحة والبلاغة التوم هجو ومني مناوي وحميدتي وأردول أحرز اكثر من 200 من طلابها الدرجة الكاملة (280) في تلك الامتحانات، وكأنما جلسوا في قاعات الامتحانات وهبط عليهم الوحي من السماء فكتبوا على أوراق الأجوبة كلاما مبرأً من الخطأ
ولكن يحيرني كثيرا أن معظمنا يعجز عن التعبير السليم عن النفس حتى في أبسط الأمور، وبالبلدي “ما بنعرف نتكلم”، ولا أعني هنا بالكلام “طق الحنك والورجغة” بل الكلام المرتب باستخدام الكلمات والمصطلحات الصحيحة في أمور حياتية يومية مثل غلاء المعيشة وأزمة المواصلات، بينما وفي كثير من الشعوب تجد أطفالا يُفّعا يتكلمون في أمور معينة بطلاقة تناسب أعمارهم
ربما يعود الأمر الى أن النقاش ليس جزءا من التفاعل العائلي عندنا، بمعنى ان أمور العائلة يتم البت فيها من قبل شخص او شخصين من الكبار، وعلى الصغار فقط تلقي التعليمات والنصائح، وعند طرح أي موضوع للحوار بين كبار العائلة يقال للصغار: امشوا العبوا، ثم تأتي المدرسة وفيها لا يسمح للطالب بالحديث أثناء الحصة الدراسية إلا ليقول إنه “لم يفهم” أمرا معينا ويطالب بإعادة الشرح، أما موضوع الدرس فإن المدرس يكتب خلاصته على السبورة أو يمليه على الطلاب، ثم ظهر في السنوات الأخيرة بيع “ملخصات” المناهج، ومن يحفظها “صم” أي عن ظهر قلب يضمن لنفسه النجاح أي ان الطالب الببغاء قد يكون أوفر حظا من الطالب الذكي
لن يمتلك انسان القدرة على “التعبير” ما لم تشجعه البيئة المنزلية على الأخذ والرد “بأدب” مع الكبار، وما لم يتواضع الكبار ويقولوا للصغار بين الحين والآخر “ما رأيكم في كذا وكذا”، وما لم تسمح المناهج المدرسية بالنقاش بحيث لا يصبح المقرر الأكاديمي وكأنه كتاب مُنزل لا يأتيه الباطل من أي صوب، ولكن القدرة الحقيقية على التعبير السليم لا تكون إلا بسعة الاطلاع والقراءة، فلكي تقول كلاما مرتبا يجب ان تعرف المفردات والمصطلحات الصحيحة المتعلقة بالموضوع الذي تخوض فيه
نستطيع ان نعذر من يخطئ في القراءة أو الكتابة فهاتان مهارتان يتطلب اكتسابهما المكابدة والمثابرة والمجاهدة، بينما القدرة على الكلام تأتي عفويا في سن مبكرة، ولكن تعزيز وتجويد تلك القدرة يأتي بالممارسة والمران (تابعت قبل حين من الزمان مقابلة تلفزيونية مع العوّاد العبقري عوض احمودي، وبهرني الرجل بطلاقة لسانه وسلامة عباراته وهو يمزج بين الفصحى والعامية، مما يعني ان الرجل- وهو كفيف- مستمع جيد وأنه نجح في تخزين معظم ما سمعه، أو قرأه بطريقة برايل ثم هضم كل ذلك فصار طلق اللسان)
جعفر عباس