أطوار الثورة السودانية وسردية التغيير الجذري
بات اليوم واضحاً تماماً للشعب استحالة العودة إلى حكم الإخوان المسلمين أو العسكر
ارتبط تاريخ الثورات في أصل انفجارها بالانسدادات التي تنعكس أزمات مستحكمة في المجتمع، بحيث لا يكون الخروج من نفقها المسدود إلا بانفجار التناقضات. والذي حدث بالسودان في 19 ديسمبر (كانون الأول) من العام 2018 كان ثورة في أسبابه الحقيقية التي أفضنا في وصفها عبر مقالات كثيرة، خرجنا منها بخلاصة مفادها بأن الحال المعيشية التي تسببت في خروج الشعب السوداني (الذي صبر على نظام الإخوان المسلمين طوال 30 عاماً صبراً عزيزاً طويلاً) لم تكن واردة في أية مقارنة مطلقاً بأي من الأحوال المعيشية التي استدعت خروج الشعب المصري في 25 يناير (كانون الثاني) 2011، أو الشعب السوري في 17 مارس (آذار) 2011، وأنه إذا توفرت للشعب السوداني الصبور شروط معيشة كالتي كانت متوفرة لكل من الشعبين المصري والسوري غداة خروجهما على نظامي مبارك والأسد في 2011 لما خرج الشعب السوداني أبداً.
ثورة لا مفر منها
هكذا ففي حين كان خروج الشعب السوداني للثورة أمراً اضطرارياً لا مفر منه، اعتُبر ذلك بذاته استفتاء بالملايين من الشعب السوداني على رفض النظام الانقلابي للإخوان المسلمين، مرة وإلى الأبد. لهذا ما بات اليوم واضحاً تماماً للشعب السوداني هو استحالة العودة إلى أمرين مهما كانت الظروف: أن يحكمه الإخوان المسلمون، أو أن يحكمه العسكر، وهو ما يفسر لنا اضطراد مليونيات الخروج الكبير لقوى الثورة السودانية بانتظام من دون كلل أو ملل منذ صبيحة انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وإلى اليوم.
وإذا صح أن ما حدث في السودان هو ثورة حقيقية (أقله ثورة على الانسداد الخطير الذي أصبحت عليه الحال بعد 30 عاماً من انقلاب الإسلاميين) فإن توضيح الرؤية التي أصبح عليها الشعب السوداني اليوم يقتضي شرحاً لطبيعة الأطوار التي تمر بها المرحلة الثورية، وما إذا كانت هذه الحال طبيعية من تعثر أولاً في تجربة حكم تحالف الحرية والتغيير خلال العامين الماضيين، وثانياً من انقلاب للعسكر في 25 أكتوبر الماضي.
بداية، لا بد من القول إن من أهم ملامح الطابع الثوري للشعب السودان أنه حتى الآن لم يندم أبداً على إسقاط نظام الإخوان المسلمين مع سقوط رأسه في 11 أبريل (نيسان) 2019، كما هي حال بعض شعوب منطقة الربيع العربي، والدليل على ذلك المليونيات التي ظلت تحركها القوى الثورية بلا كلل، وليس آخرها مليونية الثلاثاء 26 يوليو (تموز) الحالي.
لكن في الوقت نفسه، ثمة تضليل كثير تنشط فيه قوى الثورة المضادة من عناصر نظام البشير على صعيد الإعلام، وتتواطأ معها منظومات إعلامية محترفة في “السوشيال ميديا” مثل الكوادر الاتصالية لشركة “فاغنر” الروسية، التي تلعب دوراً بتمويل من العسكر و”حميدتي” في تضليل الرأي العام عن الحراك الثوري في منصات التواصل الاجتماعي كـ”فيسبوك” و”تويتر”، لتنشط على هامش ذلك التضليل سجالات عقيمة عن التعب من الثورة، وتساؤلات حول ضياعها وإخفاقها وغير ذلك، إلى جانب ما عليه حال بعض القوى التي تعمل على عرقلة الحراك الثوري بخطاب أيديولوجي متوهم وشعارات تعكس نمطاً طهورياً في فهم الثورة، مثل ما يفعل الحزب الشيوعي الذي أسس أخيراً تحالفاً سماه (تحالف قوى التغيير الجذري) مع بعض الكيانات التي تعبر عنه أصلاً مثل “تجمع المهنيين”، وهو فرع آخر من تجمع المهنيين، إلى جانب كيانات أخرى.
هذا المشهد الذي ينطوي عليه الحراك الثوري في السودان اليوم يراد له أن يكون مشتتاً عبر مثل هذه التحالفات (تحالف قوى التغيير الجذري)، وذلك بزعم أن الأهداف ليست واحدة في هذا الحراك الثوري، حيث تقوم فلسفة الشيوعيين على أنه ليس بالضرورة أن تكون القوى الثورية متحدة لإسقاط النظام، ليبرروا اختلافهم عن قوى الحرية والتغيير التي يصنفونها ضمن القوى الخائنة لأهداف الثورة، في حين أن البديهي اليوم لكل من له بصر عميق أن توحّد جبهة القوى الثورية من أجل مهمة إسقاط الانقلاب هو أوجب واجباتها العاجلة، فأي تبرير للاختلاف حول تلك المهمة يتوهم أصحابه تميزاً يمنحهم قدرة خارقة على إسقاط الانقلاب بمعزل عن القوى الثورية الأخرى هنا والآن، وهو تبرير خطير ولا يصمد أمام أية حجة ثاقبة، ناهيك عن أنه قصر نظر وتفسير طهوري للنضال في غير محله.
استراتيجية الحراك المضاد
إن مهمة إسقاط الانقلاب اليوم هي في الحقيقة تجديد لزخم الثورة الأول في 2019، الذي كان السبب الأساس فيه توحد القوى الثورية حول عنوان واحد هو “تجمع المهنيين السودانيين”، وخلف تحالف واحد بعد ذلك هو تحالف قوى الحرية والتغيير.
وفيما تعمل قوى الثورة المضادة على توحيد جهودها لإفشال الثورة، مستخدمة في ذلك كل أشكال التضامن، سيعكس تكوين “تحالف التغيير الجذري” اصطفافاً لا واعياً مع قوى الثورة المضادة، إذ سيشكل ذلك عامل انقسام في قوى الثورة، الأمر الذي سينعكس سلباً على الحراك الثوري، حيث بدا واضحاً بعد يوم من إعلان “تحالف قوى التغيير الجذري” في ما عبر عنه بيان لـ”لجان مقاومة الديوم الشرقية” تعلن فيه عدم مشاركتها في مليونية 26 يوليو التي دعت إليها “قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي”، وهذا البيان في تقديرنا أول ردود الفعل السلبية على قيام “تحالف التغيير الجذري”، إذ ظهر تماماً تأثر “لجان مقاومة الديوم الشرقية” بالخطاب العدمي لــ”تحالف التغيير الجذري”. وهذه سابقة خطيرة قد تؤدي إلى انقسامات عمودية في جسم لجان المقاومة، الذي هو اليوم المعيار التكويني الأول في تأسيس الخطاب والحراك الثوريين.
ولقد كانت ردود الفعل الغاضبة في تعليقات متابعي صفحة “لجان مقاومة الديوم الشرقية” على “فيسبوك” أكبر علامة دالة على خطل موقفها، ولا سيما عبر الفقرة التي تقول في البيان “إن (تنسيقية لجان مقاومة الـديـوم الـشرقـية) تنأى بنفسها عن الصراعات والمشاكسات والتكتلات الحزبية القديمة والجديدة، ونؤكد أن شوارع الثورة ليست ميداناً لهذه المعركة، وأنه لا يحق لأي حزب أو تحالف أو جسم أن يقيم منصة أو يخاطب الجماهير في تقاطع باشدار سوى لجان المقاومة”، فقد بدا واضحاً ما تنطوي عليه هذه الفقرة من لهجة احتكارية تعكس إرادة للهيمنة والوصاية على الثورة بتحريم منطقة التجمع الثوري على كل منصة أخرى غير منصة لجان المقاومة (يقصدون لجان مقاومة الديوم الشرقية).
باتجاه النقد الذاتي
لهذا من الأهمية بمكان ممارسة نقد ذاتي للظواهر السلبية الخطيرة في الحراك الثوري وعدم التهاون معها، لتأثيرها الخطير في مستقبل صيانة المجال العام كفضاء عمومي لقوى الثورة جميعاً أحزاباً وحركات وكيانات ومنظمات وغيرها.
إن الذين يسلمون بهذه العقبات التي تعترض طريق الثورة، سواء عبر تخطيط قوى الثورة المضادة، أو القوى التي تعوق الحراك الثوري من داخله – كالحزب الشيوعي – وينظرون إليها كفشل للحراك الثوري العمومي، خصوصاً بعد انقلاب 25 أكتوبر الماضي، هم في العادة ممن لا يدركون معنى الثورة ولا صيرورتها كظاهرة إنسانية تتحرك ضمن شروط وقوانين واقع وموازين قوى وحواضن محلية وإقليمية ودولية. ولهذا سيبدو الخطاب التخذيلي الذي تشتغل عليه قوى الثورة المضادة وحلفاؤها مؤثراً مضللاً لكثيرين من عامة الناس، الذين يجعلون من وسائط التواصل الاجتماعي كـ”فيسبوك” و”واتساب” مرجعية لأحكامهم السطحية عن مصائر الثورة.
لكن ما هو مهم جداً اليوم ويعكس الحقائق على الأرض يتجسد في مؤشر الحراك الثوري، فهذا الحراك أولاً لم يتوقف زخمه منذ يوم الانقلاب في 25 أكتوبر، وحتى الآن. وثانياً هناك حوارات فكرية ومعرفية غنية أفرزها ذلك الحراك في قلب الحركة الجماهيرية، ولا يزال حراكاً فكرياً منتجاً لخطابات تتصل بأطروحات مفكرين ومنظرين للثورة يشتغلون باستمرار على تبيين طبيعة الثورة وإعادة تعريف سياقاتها وشروطها ورصد معوقاتها، وتأكيد أنها الطريق الأسلم للاستقرار وصناعة التنمية والسلام والعدالة والديمقراطية. كما يفعل عدد من منظري هذه الثورة الذين أصبحوا محل إجماع وثقة بين الثوار مثل الحاج وراق وبكري الجاك ووجدي كامل وآخرون.
لقد كانت أهم سياقات الخطاب في تنظير أولئك المفكرين هي التحليل المعرفي المركب لسياقات الحراك الثوري وتطوراته، عبر ندوات جماهيرية في الوسائط المختلفة طرحت تشخيصاً لطبيعة الانسداد الذي عكسه توازن الضعف في المكون العسكري واستحالة حكمه الانقلابي للسودان، لأنه انقلاب اتفقت كل الشروط الموضوعية على عدم قابليته للنمو، مما سيجعل من سقوطه مسألة وقت. وفي مستوى آخر من الحراك، بدا واضحاً أن هذا الجيل الثوري الجديد يدرك تماماً ما يريده، في الوقت الذي يعرف أيضاً أنه سيظل يبحث بلا كلل عن طريق لما يريده من تحقق للدولة المدنية التي تفضي إلى تطبيق مبادئ الثورة الكبرى: الحرية والعدالة والسلام، مهما بدا ذلك الطريق وعراً وعسيراً، ومهما كلف من دماء ودموع وآلام.
بعيداً من الأيديولوجيا
في ظل ذلك البحث لا يعترف هذا الجيل الثوري الجديد إلا بالأطروحات المتماسكة، والجدل الثوري الرصين، والحجج المعرفية في تحليل قضايا الثورة والانتقال الديمقراطي، من خلال قراءات موضوعية لبنية الواقع السياسي وموازين القوى الإقليمية والدولية، بعيداً من الخطابات الأيديولوجية المتكلسة للأحزاب العقائدية المؤدلجة لليمين واليسار.
لقد تبين لكثير من الثوار أن الجسم المسمى “تحالف التغيير الجذري” الذي أسسه الحزب الشيوعي السوداني هو علامة انقسام في طريق وحيد وحصري لإسقاط انقلاب 25 أكتوبر.
وفي ظل الحاجة الضرورية لوحدة قوى الثورة اليوم لتحقيق المهمة، يعكس خيار الحزب الشيوعي تعبيراً عن نظم إدراك مؤدلجة وغير قادرة على رصد تحديات واقع سائل تتشكل فيه الأحداث بوتائر متسارعة.
إن ردود المتابعين الكثيفة والمضادة لموقف بيان “لجان مقاومة الديوم الشرقية” بالخرطوم على “فيسبوك”، الرافض للمشاركة في المليونية التي دعت إليها “قوى الحرية والتغيير” تحت شعار “السودان الوطن الواحد” الثلاثاء 26 يوليو، كشفت عن تطورات جديدة قد تعيق الحراك الثوري إذا تفاقمت الخلافات بين لجان المقاومة على غرار الخلافات التي عصفت بتجمع المهنيين من قبل، الأمر الذي سيعني أن ثمة محاولات مريبة قد تجري لشق وحدة لجان المقاومة التي تقود الموجة الثانية من المرحلة الثورية، كما تم شق تجمع المهنيين، الذي قاد المرحلة الأولى من الثورة، وهذا أخطر ما يمكن أن تفضي إليه هذه المحاولات.
ولعل انسحاب بعض الأجسام التي ورد ذكرها كأطراف موقعة في البيان التأسيسي لـ”تحالف قوى التغيير الجذري”، بحسب صحيفة “الديمقراطي”، مثل “منظمة أسر شهداء ديسمبر المجيدة”، وانسحاب لجان المقاومة من “التحالف الاقتصادي لثورة ديسمبر” و”لجنة ضباط الشرطة المفصولين تعسفياً والمعاشيين” (إنصاف)، و”تجمع الأجسام المطلبية”، أقول لعل انسحاب كل تلك الأجسام من تحالف الشيوعيين المسمى “قوى التغيير الجذري” بعد مرور يوم على تأسيسه، يدل بوضوح إلى أية درجة أصبح الحزب الشيوعي يعلب دوراً كبيراً في ترسيخ الانقسام في الشارع الثوري والقوى الثورية بما يسهم بصورة كبيرة في إطالة أمد الانقلاب.
محمد جميل احمد
إندبندنت عربية