ثم الثرثار..
ولا أدري أيهما أكره أكثر من كرهي للثوم..
وقبل أيام ذهبت لزيارة الصديق الحبيب عمر الجزلي عقب عودته للبلاد..
فلم أنطق سوى بعبارات السلام..
أو لم أجد فرصة لأنطق بغيرها ؛ فجميع الحضور كانوا من المذيعين..
ومذيعونا – على وجه التحديد – يحبون الثرثرة..
رغم أن أشهر مذيعٍ حواري – على مستوى العالم – كان ضد الثرثرة هذه..
وهو لاري كينج ؛ ملك الحوارات التلفزيونية..
وقد ذكر ذلك في حوار أجري معه عقب تركه السي إن إن بمحض إرادته..
قال إن أحد أسباب شهرته تجنب الثرثرة..
أو على حد تعبيره : السرعة…السلاسة…الاختصار…وتلاحق الأسئلة..
في حين أن أسئلة مذيعنا هنا أطول من إجابات ضيفه..
والضيف هذا نفسه يكون محباً للثرثرة ؛ فنحن شعبٌ يعشق كثرة الكلام..
ومع كثرة الكلام هذه قلة عمل..
وهذه الصفة فينا أشار إليها الرحالة بوركهارت بكثير دهشةٍ من تلقائه..
قال إن السودانيين يعشقون العنقريب والكلام..
وإلى يومنا هذا نحن نعشق ما نُريح أجسادنا عليه ؛ ثم نمارس هواية الكلام..
عنقريباً كان…أم مقعداً…أم بنبراً أمام بائعة شاي..
والبارحة كتبت خاطرة عن هذه الصفة فينا من وحي حرائق العالم الآن..
وكان هذا هو نصها تحت عنوان إطفاء:
إطفاء النور..
أو إطفاء الحريق..
والآن تشتعل الحرائق في بعض دول الغرب..
فيهب الجميع لإطفائها..
جنباً إلى جنب مع رجال الأطفاء..
أما إن اشتعلت هذه الحرائق في بلادنا فسيهب الجميع أيضاً..
ولكن نحو القاعات…والأستوديوهات..
وتشتعل – مع اشتعال الحرائق هذه – كل قاعةٍ وأستوديو نقاشات ملتهبة..
فنشهد ورشاً…وندواتٍ…ومؤتمرات..
ثم يأتي من ينبه المشتعلين بالداخل هؤلاء أن الحرائق بالخارج قد انطفأت..
وذلك بعد أن انطفأت كل معينات اشتعالها..
بعد أن قضت على الأخضر واليابس..
فلم يبق أمامهم سوى أن ينجحوا في نوعٍ واحد من نوعي الإطفاء..
إطفاء النور..
انتهت الخاطرة……
ولم تنته مأساة بلادنا مع الثرثرة غير المصحوبة بعمل..
بل – وعوضاً عن ذلك – ظهر لدينا ضربٌ جديد من الثرثرة أشد سوءاً..
وهو الثرثرة الفسفوسية ؛ أو الفسافيسية..
والفسفوس حشرة تشبه الصرصور ؛ إلا أنها أصغر حجماً…وأكبر ضررا..
وشبَّهت بها جماعة سياسية عندنا الآن..
ووجه الشبه صغر العقل وكبر الضرر ؛ وأحد أوجه ضررها في الثرثرة..
فهي ثرثرة لا تكتفي بكونها من غير فائدة وحسب..
وإنما تضيف إلى مصيبتنا في الثرثرة هذه مصيبة فاحش القول السياسي..
وهي مصيبة تذكرنا بالمثل القائل : أحشفاً وسوء كيلة؟..
وكانما كُتب علينا الشقاء بثرثرتنا هذه – دونما عمل مجدٍ – إلى ما لا نهاية..
وكُتب علي – شخصياً – شقاءٌ أشد..
شقاءٌ مع الصرصار…والثوم…والثرثار ؛ ثم الثرثار الفسافيسي هذه الأيام..
والعالم مهدد الآن بحربٍ نووية..
وقيل أن الكائن الوحيد الذي سيبقى بعد أن يفنى الجميع هو الصرصار..
وما من جدوى في أن نشن حرباً مماثلة في بلادنا..
أن نشن حرباً نووية على ظاهرة الثرثرة التي أقعدت بنا منذ زمان بوركهارت..
فهنالك كائنٌ سيبقى حتى بعد أن تفنى الثرثرة..
كائن لديه خاصية الصرصار في مقاومة الفناء ؛ وهو الفسفوس من البشر..
الثرثار !!.
صحيفة الصيحة