إذا ما أدركنا اليوم أن تخريب الدولة السودانية وتجريف جهازها العام صناعة “إخوانية” بامتياز، فإن هذا الإدراك، على الرغم من انطباقه بصورة كبيرة مع الحقيقة، إلا أنه لا يعكس أصول وبدايات التفريط التي كانت مهدت لذلك العطب الذي نراه اليوم.
وهكذا، يمكن القول إن انقلاب الإنقاذ على يد البشير – الترابي عام 1989، كان النسخة النهائية التي أعطبت جهاز الدولة العام على نحو مميت، لكن أصول ذلك العطب كانت تكمن في تصرف النخبة الحاكمة التي تواترت على إدارة السودان منذ الاستقلال، وهي نخبة غالبيتها كانت من الوسط والشمال.
أعمال البدايات التي عكست ذلك التفريط من حيث عدم الأخذ في اعتبارات التنمية المتوازنة وإشراك جميع السودانيين على امتداد رقعة الوطن في إدارة سلطة البلاد كانت تنطوي على غيبوبة خادعة، قامت على توهم قياس خاطئ في النظر إلى تلك النخبة المتعلمة ذات المنشأ الجغرافي الواحد (الذي عبّر عنه عبد السلام نور الدين بمحور: دنقلا، الخرطوم، كوستي)، بصفتها تلك، أنها هي النخبة الكلية المعبرة عن السودانيين بصورة نهائية، أي لقد توهمت تلك النخبة ذلك القياس بحسبانه صورة حقيقية لما يجب أن تكون عليه النخبة السودانية المتحكمة في السلطة والثروة.
وما أسهم في ذلك الغياب عن شمول اعتبار بقية السودانيين باستحقاق المواطنة، اندرج أيضاً في أمرين بحسب تقديرنا، الأول اعتبار فائض منسوبي نخبة الوسط والشمال في جميع أقاليم السودان على أنهم تمثيل لتلك النخبة بتصورهم بديلاً عن نخبة تلك الأقاليم، والثاني، الإيهام العروبي الذي استقرت عليه عقيدة تلك النخبة بصفتها نخبة عربية تمثل هوية السودان العربية، بحسب ما جاء في نشيد مؤتمر الخريجين عام 1938 (ومؤتمر الخريجين هو نواة النخبة السودانية التي عبرت تعبيراً كاملاً عن الشمال والوسط السودانيين) الذي عكس خيال الخريجين عن أنفسهم كأصحاب هوية عربية خالصة بحسب قول شاعر المؤتمر خضر حمد في النشيد المذكور: “أمة أصلها للعرب”. وفي تقديرنا أن هذين الوهمين لعبا دوراً كبيراً في ذهول النخبة السودانية الحاكمة وعدم اكتراثها بأي بحث في الجذور الحقيقية لهوية السودانيين بما تنطوي عليه تلك الهوية من تنوع، من ناحية، مما أقام تطابقاً وهمياً، من ناحية ثانية، في تصور المواطنة انطباقاً على مكوّني الشمال والوسط كمسوغ أساسي لحيازة غالبية الخدمات التي وفرتها الدولة آنذاك!
مشروع المحمية البريطانية للبجا
ولعل أبرز ما يؤشر إلى بوادر الأزمة الوطنية في مستقبل إدارة السلطة والثروة هو ما انتبه إليه الإنجليز قبيل خروجهم عندما طرحوا على البجا (سكان شرق السودان) مشروع المحمية البريطانية، حيث أدرك الإنجليز أن ما نالته نخب أهل الوسط والشمال في السودان من حظوظ التعليم والسلطة والثروة سينعكس سلبياً في مستقبل إدارة البلاد حيال القوميات السودانية الأخرى، مثل قومية البجا، حال منح الاستقلال للسودانيين، من دون تسوية الفوارق التنموية عبر ما سُمّي آنذاك بمشروع “المحمية البريطانية”، فكان طرح ذلك المشروع يقوم على ضم البجا في شرق السودان وغرب إريتريا ضمن إطار تلك المحمية البريطانية لمدة عشرة أعوام تحت التاج البريطاني من أجل ترفيع المستوى التنموي والتعليمي للمنطقة بخلق كوادر عبر جرعات مكثفة في التنمية والتعليم والإدارة والتدريب إلى درجات تؤهلهم للحاق بمستوى إخوانهم في الشمال والوسط، ثم بعد عشرة أعوام يتم ضم المحمية إلى الدولة السودانية.
لكن اعتراض البجا في شرق السودان (على الرغم من تأييد ناظر الهدندوة آنذاك محمد الأمين ترك، والد الناظر الحالي، لمشروع المحمية نظراً إلى وجود جزء من قبيلته في غرب إريتريا) كان كبيراً، فخرجوا في تظاهرات رفضاً لذلك المشروع بدوافع كراهية المستعمر، لكن ما كشف عنه المستقبل بعد ذلك بأعوام دل على مصداقية ما توقعه الإنجليز، لا سيما أن السكرتير الإداري للسودان مستر دوغلاس نيوبولد كان متعاطفاً مع البجا، في الوقت ذاته الذي رفض البجا في إريتريا المشروع بعينه.
الجيش والسياسة في السودان
هذا المثال الذي نسوقه يُعدّ من المؤشرات الأولى التي كانت تدل على اختلال رؤية النخبة السودانية لنفسها ولطبيعة إدارة السودان وفق تصور هوياتي ومناطقي لم يكُن يعكس هوية البلاد الحقيقية في كونها دولة ذات تعدد لغوي وإثني تستحق مشروعاً وطنياً كالمشروع الذي أسس له المهاتما غاندي في الهند ونجح فيه.
أزمات متجددة
كان الذهول عن المنبهات المبكرة لأزمات المستقبل السوداني على صعيد إدارة السلطة والثروة وتحقيق التنمية وإدارة التنوع في وعي النخبة السودانية المذكورة تلك أشبه بـ”سرنمة” حالمة وغير قابلة لليقظة إلا تحت وقع ضربات تحويلية كبرى وقاسية بحكم واقع الإهمال والتهميش الذي حدث لتلك الأقاليم السودانية على مدى 50 عاماً، وفي وقت وصلت الأزمات إلى حدود غير قابلة للإصلاح إلا بجهود عسيرة وعمليات جراحية مركبة.
وكان التطور الأخطر الذي فاقم الأوضاع على الإطلاق هو انقلاب البشير- الترابي على الحكومة الانتقالية عام 1989 وهو الانقلاب الذي أعطب وجرف جهاز الدولة العام على مدى ثلاثين عاماً، وفخخ نسيج المجتمع السوداني بنظام تسييس الإدارة الأهلية.
وبالجملة يمكن القول إن السودان اليوم يقف على مفترق طرق خطير، على الرغم من ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 العظيمة، إذ يواجه السودان تنازعات قوية بين القوى القديمة لنظام الإنقاذ التي تنشط اليوم بوجه مناطقي قبائلي سافر، وبين قوى الثورة السودانية التي تتمثل اليوم أكثر ما تتمثل في لجان المقاومة.
أزمة الأحزاب السودانية
أما الأحزاب السودانية المركزية، فيمكن القول إن برامجها اليوم لا تعكس شمولاً ووعياً لا بمشكلات أزمة الدولة السودانية، ولا بمشكلات وقضايا التهميش الذي ظل مستمراً منذ ما بعد الاستقلال لأطراف السودان، الذي انفجرت مشكلاته في ما بعد على نحو عنيف، ما يدل على أن ثمة عجراً كبيراً في ذهنية العمل الحزبي العام للأحزاب المركزية السودانية اليوم، لأن المجتمع الذي نشأت فيه تلك الأحزاب لا يزال تقليدياً منشغلاً بالقبيلة والمنطقة والطائفة، ولعل أبرز تعبير عن ذلك، ما يمكن أن نرصده بسهولة في طريقة استجابة أعضاء الأحزاب في الدفاع عن أحزابهم، فهي طريقة تنم في حقيقتها عن طبيعة للدفاع عن هوية خاصة، وما يصاحب ذلك غالباً من غضب وتشنج.
كل ذلك على مدى أكثر من 60 عاماً دل على أن تجريف الدولة منذ 30 عاماً على يد “الإخوان” أصبح اليوم تحدياً حقيقياً لقوى الثورة الحية في صراعها مع القوى القديمة التي كرس”الإخوان” لها طوال حكمهم أطراً قبائلية ما زالت حتى اليوم تتحكم في طريقة استجابة السودانيين لوحداتهم البدائية كالقبيلة.
وللأسف، حتى اليوم، لا نكاد نجد في النخبة السودانية المذكورة طبقة، لا أفراداً، يمكنها أن تفرق بوضوح بين مسألتين لا اقتران شرطياً بينهما (سوى اشتراط متوهم) يدل بذاته على غياب مفهوم دولة المواطنة، ونقصد بذلك: العجز عن التفريق بين تصورات مركزية لحياة عامة كرسها جهاز الدولة العام وإعلامها لحياة أهل الوسط ولغتهم العربية في وجدان جميع السودانيين، وبين إمكانية أن يقبل السودانيون في جميع أنحاء البلاد بتلك التصورات القائمة على أدوات القوة الناعمة، وهضم حقوقهم كمواطنين مختلفين عن ذلك الوسط ضمن التنوع الذي يقره دستور الدولة.
وفي ظل غياب هذا الوعي بهوية الدولة والمواطنة والحقوق والدستور على النحو السليم في عقول النخب السودانية، ما زال واقع السودان اليوم مكشوفاً أمام كثير من التناقضات التي يكشف عنها غياب الدولة.
محمد جميل احمد
إندبندنت عربية