عندما وضع جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، اللبنات الأولى لكيان “دولة جنوب السودان” الجديدة ظن الجميع أن تاريخ انفصالها عن السودان في عام 2011 سيكون بداية النهاية للحرب التي استمرت لأكثر من نصف قرن، قبل توقيع اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) في عام 2005، كما كان يتوقع أن اعتراف العالم بالدولة الوليدة سيفتح المجال لعلاقات دولية واسعة ويؤسس لاستثمارات واعدة، خصوصاً بعد ذهاب نحو 75 في المئة من النفط إلى دولة جنوب السودان، فضلاً عن توقع إعفائها من نصيبها من ديون السودان.
ومنذ ديسمبر (كانون الأول) 2013 اندلعت الحرب الأهلية مرة أخرى بين جيش دولة جنوب السودان بقيادة الرئيس سلفا كير ميارديت والمتمردين بقيادة نائبه رياك مشار. وأودى الصراع بحياة نحو 400 ألف شخص، ودفع أكثر من مليون شخص إلى النزوح، حيث اتجه أغلبهم إلى دولتي السودان وأوغندا.
في بداية هذا العام 2022، وقع الحزب الحاكم في “جنوب السودان” بقيادة الرئيس سلفا كير ميارديت، مع منشقين عنه بقيادة رياك مشار، نائب الرئيس، اتفاقاً آخر بعد توقف كامل عن تنفيذ بنود “اتفاق السلام الشامل” الذي وقع في عام 2018، وهذا بدوره نص على إعادة إحياء اتفاق عام 2015 من أجل تسوية النزاع في دولة جنوب السودان بين الرئيس سلفا كير ميارديت ورياك مشار.
لكن بعد إعلان وزارة الخارجية الأميركية أخيراً أن الولايات المتحدة قررت إنهاء مساعداتها لآليات مراقبة عملية السلام اعتباراً من 15 يوليو (تموز) الحالي، بسبب “فشل قادة جنوب السودان في تنفيذ الالتزامات التي تعهدوا بها لإحلال السلام في البلاد، وإظهار عدم وجود الإرادة السياسية اللازمة لتنفيذ الإصلاحات الحاسمة”، بحسب بيان المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس، يمكن التنبؤ بما قد ينتهي إليه الدعم الأميركي المتبقي ومآلات إيقاف المساعدة الأميركية التي تمس عصب دولة ناشئة مثل “جنوب السودان”.
تعقيدات الأزمة
تجسد الأزمة في دولة جنوب السودان فهم الارتباط غير المنطقي بين وقوف المجتمع الدولي معها، ودفعها إلى الانفصال ومباركة قادتها سابقاً، وانتعاش نزعة معاقبتها حالياً. وينطلق ذلك من ضعف الوعي بتعقيدات الأزمة في الدولة والتي تتجلى بشكل ما في أزمات دولة السودان الشمالي مثل الحرب في دارفور والصراعات في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. فالضيق بدولة حديثة متأثرة بتكوينها الأفريقي القائم على تسلسل حالات النزاع وانعكاسها على مجريات أحداثها يعبر عن جزء كبير من المشكلة، إذ إنه لو ذهب القادة الحاليون وأتى غيرهم فسيلجون حكم الدولة من أوسع أبواب الاحتفاء مثلما حصل مع الرئيس سلفا كير، وسيكون ذلك على أرضية الأزمات ذاتها المتجذرة في الدولة. ويمكن لاتفاق السلام الذي وقع مرات عدة بالبنود نفسها في الاتفاقية الرئيسة أن يكون مقياساً لما تحمله محاولات إشاعة السلام من دون النظر في ما يعطل تنفيذه، وكاشفة عن بنودها الشكلية غير المتحققة على أرض الواقع.
وكما يقال فإنه “من السهل تحديد الأهداف لكن أصعب من ذلك بكثير الاتفاق على وسائل تحقيقها”، فقد بدا أن نشوء الدولة قد يكفل حقاً صلباً أو مرناً في نزع السلاح، لكن لم يتجسد ذلك حتى الآن في تأسيس الدولة، وإنما نشأت رد فعل عنيفة ضد الروح العسكرية الأصيلة.
وخلال عشر سنوات من تكوين الدولة اشتد القتال ولم تفلح “اتفاقية السلام الشامل” في وضع حد له، وذلك لعوامل عدة. أولاً، لأن بنود اتفاقية السلام اتجهت لمعالجة مشكلات موروثة من السودان القديم، وفشلت في ذلك، مع إغفال المشكلات الآنية نتيجة لظروف انشقاقات في جسم الحركة الشعبية، وهي ما لم تظهر إلى العلن خلال الحرب الأهلية بين الجيش السوداني والحركة الشعبية لتحرير السودان أثناء قيادة جون قرنق لها. ثانياً، أن استحقاقات السلام من المفترض أن تؤسس على مجموعة من متطلبات تكوين الدولة يكون هدفها التنمية وليس اقتسام السلطة الذي يمكن أن يأتي لاحقاً. ثالثاً، عدم التناسب بين ما يقدمه المجتمع الدولي من عون ومساعدات واندفاع هذه القوى لإدانة دولة الجنوب.
التلويح بالعقوبات
تفترض الولايات المتحدة توفر متطلبات حل أزمة دولة جنوب السودان، وعندما تأتي لحل أي أزمة في القارة الأفريقية تقدم مقترحاتها من خلال قوالب تفرضها رؤى الديمقراطية الغربية. وليس هناك شيء أسهل من حمل كل البيانات المنددة بالعنف، سواء من قبلها أو من بقية المجتمع الدولي ومنظماته وعلى رأسها الأمم المتحدة سوى التلويح بالعقوبات على فشل هذه الدول. وهو وإن كان صحيحاً فإنه قبل انتقاد دور أغلب الجيوش الأفريقية التابعة للدولة في تأجيج العنف يمكن النظر إلى طبيعة نشأتها وتكوينها. فمطالبة قادة “جنوب السودان” بإنشاء “جيش موحد ومحترف” في ظل انقسامات إثنية وعسكرية وسياسية سيجابه بمزيد من العنف والانقسامات.
ولا يقتصر ذلك على جيش دولة جنوب السودان، فقريباً منه جيش دولة السودان الذي حافظ على قوميته منذ تأسيسه في عام 1925 ومشاركة وحدات منه في الحرب العالمية الثانية، ثم تأسيس نواته كجيش سوداني حديث عرف باسم “قوة دفاع السودان” قبل عام 1955، مكونة من جنود سودانيين تحت إمرة الجيش البريطاني، ثم في ما عرف بالجيش السوداني بعد استقلال السودان، فإنه بعد انقلاب نظام “الإنقاذ” عام 1989، ثم دخوله في حرب الجنوب هذه المرة على أساس عرقي وديني، ثم دوره بجانب الميليشيات التابعة لحزب “الجبهة الإسلامية القومية” في حرب الجنوب وحرب دارفور، أحاطت به عدد من الاتهامات وهالة من عدم الثقة في أن يظل جيشاً قومياً، خصوصاً مع حالة الضغط الدولي بضرورة الوفاء ببند “الترتيبات الأمنية” ودمج الحركات المسلحة داخله.
حائل أساسي
هناك تحديات عدة تجعل قرار واشنطن إيقاف مساعداتها حائلاً أساسياً أمام تحقيق السلام الذي نددت بفشل قادة الجنوب في تحقيقه. وبعبارة أخرى، فإن إيقاف المساعدات سيترك دولة جنوب السودان في مواجهة أزمات عدة، وربما بصورة أشد مما كانت قبل ذلك بالنظر إلى حاجة الدولة إلى إنشاء بنية تحتية، وخدمات أساسية مثل الصحة والتعليم، ثم إعادة الإعمار وإعادة توطين النازحين واللاجئين إلى دول الجوار بسبب الصراعات المستمرة.
وقد لا تستطيع “جنوب السودان” الإيفاء بكل متطلبات تأسيس دولة بمفردها أو بمساعدة محدودة من منظمات إقليمية، فلم يسهم الاتحاد الأفريقي أو منظمة “إيغاد” في رتق نسيج الدول القائمة أصلاً ومعالجة ضعف مؤسساتها الإدارية والأمنية، أو مكافحة الفساد السياسي داخلها، أو الحد من الانقلابات العسكرية وغيرها.
وبغض النظر عن حجم الفروق بين الدعم الدولي والإقليمي، فإن النظم الأفريقية تتعامل مع المساعدات الخارجية وكأنها تحمل حلاً سحرياً، لا يكمن في قدرها وإنما في طبيعة منبعها على الرغم من الشروط المصاحبة التي يراها هؤلاء القادة، خصوصاً العسكريين، أنها مجحفة وغير عادلة.
ومن هذه الزاوية يمكن أن يكون لافتاً تعليق بعض خبراء الأمم المتحدة بأن توقيع “اتفاق السلام الشامل” لحل الأزمة في دولة جنوب السودان جاء على شكل صفقة، ما أدى في الواقع إلى العنف، ويلاحظ ازدياد الاشتباكات بين قوات الرئيس سلفا كير وحزبه الحاكم من جهة، وقوات المعارضة من جهة أخرى في الفترة الأخيرة.
وربما يعبر عن لب المشكلة الحقيقي ما جاء به الفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما في كتابه “بناء الدولة” حول “محدودية الاشتراط كأداة فاعلة لتوليد الحاجة إلى الإصلاح المؤسساتي، وحول الاعتقاد أن المساعدات ذاتها يمكن أن تضعف التطوير المؤسساتي المنشود. ويقع عديد من تلك المشكلات على عاتق الدول المانحة، وعلى طبيعة الحوافز التي تقدمها للحصول على نتائج، غالباً تكون مادية وملموسة وقصيرة الأمد لقاء مساعداتها، بدلاً من الانتظار بصبر وأناة لإحداث التطوير المؤسساتي من الداخل وعلى المدى البعيد”.
نجاح محدود
انتقدت واشنطن دولة جنوب السودان لعدم اعتمادها حتى الآن قانوناً انتخابياً، وقد شارفت الفترة الانتقالية المنصوص عليها في اتفاق السلام على الانتهاء في فبراير (شباط) 2023، وكان من المؤمل أن تجرى الانتخابات قبل 60 يوماً من ذلك.
بيان وزارة الخارجية الأميركية أكد قرار إيقاف المساعدات الخاصة بمراقبة اتفاقية السلام، لكنه أكد كذلك أن الولايات المتحدة ستواصل تقديم نحو مليار دولار من المساعدات الإنسانية والإنمائية ودعم بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (يونميس)، من بين دعم مالي آخر ومساعدة إضافية من خلال البنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية الأخرى، بينما يرى بعض المراقبين أن “دعم الولايات المتحدة لم يكن بالأساس لتنفيذ السلام، لكن لدعم المجتمع المدني، وذلك بغرض إسقاط النظام القائم وتغييره، ما يطعن في الإعلان الأميركي بدعم الاستقرار، والحيلولة دون تنفيذ الاتفاق وصولاً إلى إجراء انتخابات في نهاية الفترة الانتقالية”. واعتمد هذا الاعتقاد على أن البيان جاء بحديث عن وقوف الولايات المتحدة مع شعب “جنوب السودان” وليس مع الحكومة، كما فسر دعم آلية مراقبة اتفاق السلام من دون دعم وتدريب القوات العسكرية في الدولة بأن معظم موظفي آلية المراقبة والتقييم هم أميركيون وأوروبيون.
ومثل السودان في فترة ما بعد استقلاله عام 1956 فإن “جنوب السودان” ارتبطت مرحلة بنائها بعد استقلالها بالصراعات والأزمات الموروثة من الدولة في عهد الوحدة، وتلك المتجذرة في الجنوب، أسهم في تفاقمها عدم حسم القضايا الرئيسة المرتبطة ببناء الدولة. وقد تزداد الأوضاع سوءاً قبل إجراء الانتخابات في العام المقبل، وتتفاقم الأزمة الاقتصادية وتتسع الفجوة التي ستتركها المساعدات الدولية، خصوصاً أن “جنوب السودان” دولة حبيسة من دون موانئ بحرية، مع أنها شرعت في اتفاقيات مع دول الجوار للوصول إلى المنافذ البحرية في السودان وكينيا. ولكن ما لم تستمر الإصلاحات الاقتصادية بالتعاون مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والتي نتج عنها تحسن كبير في العلاقات بين “جنوب السودان” وهاتين المؤسستين، فإن ذلك سيدعم ما ظل يتردد بأن نجاح المساعدات الدولية محدود ويرتبط بخصوصيات الدول، وأجندة الدول المانحة.
مني عبد الفتاح
إندبندنت عربية