شهد إقليم دارفور البالغة مساحته 525 ألف كيلومتر مربع، الأيام الماضية، توقيع خمس اتفاقيات صلح بين عدد من قبائل المنطقة لإنهاء وطي صفحة الخلافات بينها وتخفيف التوتر الذي لازم الإقليم سنوات طويلة.
وتضمنت وثائق هذه الاتفاقيات التي شملت قبائل المسيرية والرزيقات والمساليت والأرنقا والتاما والقمر والقبائل العربية عديداً من البنود الملزمة لجميع الأطراف المعنية، من أبرزها احترام العدالة والقانون وبسط هيبة الدولة وعدم حماية مرتكبي الجرائم التي تؤجج الصراعات الدامية بين القبائل.
لكن ثمة تساؤلات طرحها كثيرون حول مدى جدوى هذه المصالحات في استقرار هذا الإقليم الذي يعيش توتراً منذ عام 2003 أدى إلى مقتل 300 ألف ونزوح أكثر من مليونين شخص، خصوصاً أنه سبق عقد مصالحات عدة من دون أن تحدث استقراراً؟
طرف ثالث
نائب حاكم إقليم دارفور محمد عيسى عليو قال لـ”اندبندنت عربية”، “في السابق كانت المصالحات التي تجرى في هذا الإقليم ركيكة ومن دون أساس قوي، إذ كانت تحدث بعد وقوع مشكلة بين قبيلتين وفق قرارات فوقية ومن ثم تنفجر المشكلة من جديد في أقل من أسبوع، لكن المصالحات التي تمت أخيراً أخذت طابع الهدوء والاستفادة من الأخطاء السابقة فضلاً عن الابتعاد عن الإغراءات والاستقطابات”.
وأضاف عليو “في تقديري أن المشكلة الحقيقية التي تؤجج وتؤرق الصراعات القبلية في دارفور هي أن هناك طرفاً ثالثاً يزرع هذه الفتن باستخدام الريموت كونترول وتحريك عناصره حتى لا يشهد هذا الإقليم أمناً واستقراراً نظراً لما فيه من خيرات وفيرة وموقع استراتيجي، بالتالي فإن محاربة هذه القضية المقلقة تكون من خلال التوعية لكل أهل الإقليم حتى يدركوا حقيقة الأمر وأهداف هذا المخطط الخبيث، ومن المؤكد أن هذه الجهود ستجني ثمارها في مقبل الأيام”.
وأوضح نائب حاكم دارفور أن “هناك أملاً كبيراً بأن تؤدي هذه المصالحات إلى استقرار دارفور في القريب العاجل، خصوصاً أنه تم اتباع منهج جديد في الجانب الإداري يؤسس لمستقبل مشرق لهذا الإقليم يتمثل في تقوية الإدارة الأهلية بصورة مثالية وليس صورية كما كان يحدث في العهود الديكتاتورية السابقة، وذلك بتمكينها من شتى الجوانب مع إبعادها من الأمور السياسية”.
وأشار إلى أنه “في الوقت ذاته تجرى حالياً نقاشات واسعة لإيجاد مشروع قانون للإدارة الأهلية سيكون ملزماً للجميع من مسؤولين وإدارات أهلية ومواطنين، حيث سيسهم في حل قضايا الحواكير (الأراضي) وإعادة النازحين واللاجئين إلى مناطقهم، فضلاً عن ترسيخه مبادئ المصالحات والتعايش السلمي بين مكونات المجتمع المختلفة ونبذ بذور الفتن”.
مطامع ذاتية
بدوره يعتقد الكاتب السوداني عبدالله آدم خاطر أن “المصالحات التي تمت بين قبائل مختلفة في أوقات سابقة بدارفور كانت دوافعها الرئيسة نابعة من رغبة المواطن نفسه بعد تجاوز حالة النزاعات المسلحة التي كانت فيها جوانب قبلية. أما ما جرى الآن من مصالحات برعاية نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان حميدتي، فهي مصالحات رئاسية ليست لها صلة بالعلاقات التاريخية والثقافية والعرقية بين مواطني هذا الإقليم”.
وقال خاطر لـ”اندبندنت عربية” إن “تلك النزاعات، التي شهدتها دارفور أخيراً وراح ضحيتها المئات وهي محل المصالحات الحالية، أفرزتها مطامع ذاتية لأفراد وجماعات وجهات معلومة بالاستيلاء على موارد البلاد من ذهب ومعادن أخرى تقع في مناطق جبل مون وكرينك وجنوب مدينة نيالا وجميعها في دارفور، لكن تصدى لهذه الأطماع مواطنو هذه المناطق بقوة، بالتالي فإن هذه المشكلات التي وقعت في هذا الإقليم خلال الفترة الأخيرة تتعلق بعمليات نهب للموارد وليس بمشكلات قبلية”.
وأوضح الكاتب السوداني أن “هدف الجهات النافذة التي تقف وراء هذه العملية هو إخراج المواطنين الذين يمارسون عمليات التعدين التقليدي لتحل محلهم مجموعات من القبائل التي جاءت من غرب أفريقيا، فضلاً عن إفساح المجال لشركة “فاغنر” الروسية التي تكثف نشاطها التعديني في هذا الإقليم، لذلك كانت كل النزاعات السابقة حول الموارد المحلية، وقد تمت المصالحات الأخيرة وفق هذه الخلفية وليس بشأن صراعات قبلية بعد أن توصلت الجهات النافذة واقتنعت بأن أسلوب القهر من أجل الاستيلاء على الموارد غير ممكن”.
تجار الحرب
وكان نائب رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول محمد حمدان “حميدتي”، الذي شهد جميع هذه المصالحات قد اتهم من سماهم بـ”تجار الحرب” بعرقلة السلام القبلي في دارفور. ودعا المواطنين إلى محاربة مروجي الفتن وتجار الحروب والأزمات الذين ظلوا يؤججون الصراعات بين مكونات المنطقة.
وقال حميدتي “لمسنا رغبة أكيدة من القبائل المختلفة التي دار بينها القتال في تحقيق السلام والمصالحة في ما بينها، لكن تجار الحرب يقفون عائقاً من دون تحقيق حلمهم في السلام والتعايش السلمي”. وأكد أنهم “يسعون إلى إيجاد سلام حقيقي يعزز الأمن والاستقرار ويطوي الخلافات والمشكلات بين هذه القبائل، لا سلاماً سياسياً”.
وأضاف نائب رئيس مجلس السيادة “كثير مما يجري في دارفور تديره الغرف نفسها التي تعبث بالمشهد في الخرطوم، إذ يسعى هؤلاء خلف مصالحهم الذاتية الضيقة”. منوهاً إلى أن ما يحدث في هذا الإقليم من تفشي خطاب الكراهية والعنصرية والتحريض على قتل النفس والفتن وغيرها من مظاهر الفوضى تقف خلفه جهات تهدف إلى تقويض السلام الذي تحقق، وإعادة دارفور إلى مربع الحرب وتفكيك النسيج الاجتماعي.
وأكد حميدتي حرص الحكومة على إيقاف الفوضى والتخريب المتعمد ووضع حد للصراعات العبثية بين المكونات القبلية من خلال فرض هيبة الدولة، وعقد المصالحات لتحقيق الاستقرار والتعايش السلمي بين مكونات المجتمع. مبدياً أسفه من أن هذه الممارسات التي هي ضد الوطن والمواطن لم تجد الردع المناسب في الوقت المناسب من الدولة، مما أسهم في تمدد دائرة الصراع القبلي لتشمل مجتمعات ظلت متسامحة ومتعايشة مع بعضها لم يسجل التاريخ في صفحاته أي صراعات في ما بينها.
ولفت إلى أنه “الآن وضعنا الملح على الجرح، ونؤكد أن هذه المصالحات حقيقية وليست سياسية، ولن تكون (حبراً على ورق)، لأنها وقعت من قبل الأشخاص المتضررين من جميع الأطراف بطوع إرادتهم من دون أي تدخل أو ضغوط”، مطالباً بحماية هذا الصلح بالردع والتخويف وبسط هيبة الدولة.
وقبل شهرين خلفت اشتباكات دامية وقعت بين قبائل المساليت وهي قبائل غير عربية، وقبيلة الرزيقات العربية في مدينتي كرينك والجنينة في غرب دارفور أكثر من 200 قتيل ومئات الجرحى في حادثة عنف أثارت القلق المحلي والدولي.
إسماعيل محمد علي
إندبندنت عربية