–
(1)
“أُكلتُ يومَ أُكلَ الثورُ الأبيض”… مثل يُضرب للغفلة وعدم تبيّن أجندة الآخر الطامع الذي يتربّص بك، فهل ستؤكل ثورة السودانيين، وقد شهد العالم عظمتها؟
بعد محاولته اليائسة لتحييد المشهد السياسي، يطرح رئيس مجلس السيادة، الجنرال عبد الفتاح البرهان، مبادرة في الثاني من يوليو/ تموز الحالي، وبعد اعتصامات السودانيين الاحتجاجية في 30 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) أن الجيش سينأى عن ذلك المشهد السياسي تماما، ولكن الجنرال أعلن أنه، ومعه رفقاؤه الجنرالات الأربعة، سيواصلون دورهم في إطار مجلس عسكريّ أعلى مختصٍّ بالأمن والدفاع. وهو هنا يتذاكى بعدم تسمية ذلك الكيان “مجلسا سياديا”. والشاهد أن الجنرالات سيبقون مسيطرين على أي هياكل مدنية تشكلها القوى السياسية والمجتمعية التي ستكلف بإكمال إدارة الفترة الانتقالية إلى حين قيام انتخابات قومية. ذلك يعني، بصريح التوصيف، أن لجنة الأمن والدفاع هي البديل الموضوعي للمجلس السيادي. ذلك من مكر الجنرالات، ولن ينطلي المكر على مجموع القوى السياسية التي تعارض انقلابهم. ستؤول إلى مجلسهم الأعلى للأمن والدفاع جميع صلاحيات المجلس السيادي. ولتعزيز ذلك التوجه الماكر، سعى، وقبيل أن يتغيّر المشهد بغير ما يتمنّى، أعاد من أبعدتهم الثورة ممّن عملوا تحت إمرة نظام عمر البشير، إلى مواقعهم القديمة في القضاء وفي مؤسّسات الاقتصاد وفي الخدمة المدنية والوزارات كافة. ولمواصلة ذلك المسعى، عيّن الجنرال البرهان، وقبيل مبادرته الماكرة، جنرالات متقاعدين سفراء للسودان في دول الجوار، في محاولة رآها بعضٌ أنها هدفتْ إلى عسكرة الدبلوماسية السودانية، مثلما استبطنت تهديداً لدول الجوار، فهل هي كذلك؟
(2)
لنقف على أسلوب تعيين عسكريين سفراء في جهاز الدبلوماسية السودانية. ليس ذلك تقليدا ابتدعه الجنرال البرهان، بل هو من سلوكيات جميع النظم الانقلابية التي شـاعتْ في أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط في حقبة الحرب الباردة. الملاحظ تاريخيا عن معظم الدول الأفريقية، وخصوصا المجاورة للسودان، أنّ السياسيين الذين تولّوا قيادة حكومات معظم تلك البلدان بعد الاستقلال، لحقت بها اضطراباتٌ وحالاتٌ من الفشل، دفعت قادة جيوش تلك البلدان إلى تولّي مهمة تصحيح الخراب الذي أحدثه السياسيون المدنيون، وقد توّهّموا أنهم قادرون.
عيّن الجنرال البرهان، وقبيل مبادرته الماكرة، جنرالات متقاعدين سفراء للسودان في دول الجوار، في محاولة رآها بعضٌ أنها هدفتْ إلى عسكرة الدبلوماسية السودانية
إلى احتواء سلبيات تلك الظاهرة، تضمّن ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية، والتي تحوّل اسمها لاحقا إلى الاتحاد الأفريقي، مادة في ميثاقها تجيز تجميد أيّ نظام ينشأ عن محاولاتٍ انقلابيةٍ من الجيش في تلك البلدان. والظن أن ذلك التجميد لم يكن فاعلا، يؤكّده ما نرصد من انقلابات عسكرية تتالت في غرب القارة السمراء. النظام السائد في السودان الآن عسكري جاء عبر انقلاب، يسيطر جنرالاته، في أمر واقع، على إدارة الدولة في السودان.
وفيما تتفاقم الأزمة السياسية في البلاد بين الشارع الغاضب والجنرالات المسيطرين، يطرح الجنرال البرهان مبادرة سحب الجيش من الساحة السياسية، لكنها مبادرةٌ ماكرة ستخرج الجنرالات من الباب، لكنهم سيعودون من الشباك، لمواصلة السيطرة على أيّ نظام سياسي مدني سمح للقوى المدنية أن تنشئه. ثمة شكوك أن الجنرالات يناورون لتمييع وحدة الشارع الثائر وإضعافه، قصد الاستمرار في حكم البلاد فعليا. وفي إطار لتعزيز إمساكهم بمفاصل الدولة، شرع الجنرالات في إعادة تعيين من أبعدتهم ثورة السودانيين قبل انقلاب الجنرالات من تلك المفاصل. يرى مراقبون أن تعيين جنرالات متقاعدين سفراء يأتي تنفيذاً لخطة السيطرة على علاقات السودان الخارجية، وإضعاف الكيان الدبلوماسي الذي لا يطمئن له الجنرالات.
(3)
ذلك تقليد ظلتْ تتبعه الأنظمة العسكرية في أنحاء القارة الأفريقية، بما يعكس عدم الثقة في ترك إدارة الدبلوماسية بيد مدنيين لا يوثَق بهم، وأكثرهم معارضون للسيطرة العسكرية على أوضاع البلاد، غير أن مثل هذه التعيينات عادة ما تجري عبر اعتماد معايير موضوعية، قصد ضمان التأكد من المقدّرات التي يمكن أن تعين مثل هؤلاء السفراء العسكريين، على إدارة سفارات بلادهم في الخارج، وأن تعتمد، من ناحية أخرى، التقييم السياسي الحصيف للعلاقات مع ذلك البلد الذي يُبتعث إليه سفير من الجنرالات. إن كانت ثمّة نيات خفية لإعلان حرب، فما الحاجة للعلاقات الدبلوماسية من أساسها؟
للمؤسّسات العسكرية تخصّصها في الأمن وصيانة الاستقلال والدفاع عن البلاد، وليس لها أن تدير شؤون البلاد بما ليس من مهامها الأساسية
بعض البلدان التي عاشت واقع الانقلابات العسكرية في ذلك الإقليم الذي يتوسّطه السودان، مثل مصر وسورية والعراق، وبعض الدول الأفريقية المشابهة لحالة السودان، مثل إثيوبيا ونيجيريا، اتبعت أسلوب تعيين عسكريين متقاعدين سفراء لإدارة علاقاتها الدبلوماسية، ولكن بمعايير موضوعية في أكثر الأحوال، ولا تترك للأمزجة الشخصية، أو لولاء أولئك العسكريين قادة تلكم الانقلابات. ليس ذلك فحسب، بل أكثر الأنظمة العسكرية تعمد إلى تحديد سقف لمثل تلك التعيينات الدبلوماسية من خارج المهنة الدبلوماسية. يضع التقليد الدّولي الذي تتبعه معظم الدول الراشدة، أو ممّن رسختْ عندها الممارسة الدبلوماسية، سـقفاً لتلك التعييينات من خارج السلك الدبلوماسي، لتكون في حدود ما نسبته 10% أو 15% على الأكثر، ولا يُترك الأمر على عواهن الأمزجة والتفاضل الشخصي لقيادة الدولة.
(4)
للأسف، لم يجنح جنرالات السّودان، كما هو واضح، للتدارس الموضوعي في طبيعة تلك التعيينات المستعجلة، اسـتباقا لأيّ حكمٍ مدنيّ قادم، فهم استندوا، في تعيين أولئك النفر من الجنرالات، إلى مواد من وثيقة دستورية عمدوا بأنفسهم إلى إحراقها تماماً، بعد انقلابهم في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ثم أشاروا، في أوامر التعيين، إلى أنها جاءتْ بتوصية من وزير الخارجية، وليس في السودان من وزراء أو مجلس وزراء أو وزير خارجية. من يساعد الجنرالات في إدارة الأمور في السودان خلال الأزمة الماثلة موظفون أدنى مستوى من الوزراء، جرى تكليفهم مؤقتا، وبصلاحيات محدودة، لأداء ما يليهم من مهام. رأى مراقبون أنها محاولة أشبه بالمغامرة لعسكرة الدبلوماسية، إذ ضمّت وزارة الخارجية السودانية أعدادا من السّفراء والدبلوماسيين المهنيين، ممّن عارضوا بجدّية ذلك الانقلاب الذي قاده الجنرالات في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهم لذلك ليسوا أهل ثقة. الجنرالات يثق فيهم الانقلابيون.
(5)
الجانب الأكثر أهمية، ويتصل بأمر شكلي، غير أنه مؤشّر إلى استخفافٍ بالمؤسّسية. أن تنشر أجهزة الإعلام عن تعيين فلان الفلاني سفيرا في البلد المعين، فهذا استخفاف بالدولة التي سيُبتعث إليها ذلك السفير، وتغوّل على حق أصيل للدولة المستضيفة. السفراء يرشّحون لرئاسة سفارات بلادهم في الدول الأجنبية، ولا يعلن ذلك إلا بعد إعلان الدولة التي تستقبل ذلك السفير على موافقتها، ولها فوق ذلك إن أرادت، أن ترفض وذلك تقليد رسخ لمئات السنين. الجانب الأكثر خطورة من مهام كلف بها السفراء الجنرالات السابقون يتصل بطبيعة ما بدا، أمام المتابعين ومما أعلنه إعلام جنرالات السودان، أنّ أولئك السفراء العسكريين سيبتعثون دفعة واحدة وفي وقت واحد إلى الدول المجاورة للسودان.
(6)
ألا يتبادر إلى أذهان المراقبين والمتابعين أن طبيعة ترشيحات جنرالات عسكريين، وتسكينهم في وزارة الخارجية السودانية، قد تعكس من الهواجس ما سيثير انزعاج الدّول التي ستستقبل هؤلاء السفراء العسكريين؟ ألا تثير تلك الخطوة تساؤلاً مشروعاً، إنْ كان لجنرالات السودان الحاكمين ما يضمرون من سياسات عدوانية تجاه جيرانهم الأقربين، وما إذا كانوا عازمين، بإقدامهم على اتخاذ هذه الخطوات غير المطمئنة، على مقاتلة جيرانهم؟
يعلم جنرالات السودان ما يعنيه التسلط والطغيان، لكنّهم ساعون إلى اختراع نظام طغيان جديد مثل نظام البشير، بل أشدّ ظلماً وطغياناً
يعجب المرء إذ يدرك أنّ للسودان علاقات رسختْ مع شعوب تلك البلدان المجاورة رسوخا تعزّز بصلات الرّحم وبالتصاهر والتمازج، عبر قرونٍ، وليس عبر سنوات. إقليم حزام السّودان التاريخي القديم والممتد من سواحل البحر الأحمر في الشرق، والمتجه غرباً حتى سواحل المحيط الأطلسي، يضمّ شعوبا اتحدت اقتصاداتها وعاداتها وعقائدها وثقافاتها وأمزجتها، بما يصعب على الغريب التمييز بين السّوداني والإثيوبي والإريتري، أو بين السّوداني والتشادي والموريتاني والمغربي والكاميروني.
لولا التنافس الاستعماري الكولونيالي في كل مكونات ذلك الإقليم، لكانت شعوبه تعيش الآن تحت مسمّىً واحدٍ وعلم واحدٍ ونظامٍ سياسيٍّ واحد. وعوض أن تعزّز هذه البلدان من التواصل الإيجابي في ما بين شعوبها، تجد بعض قيادات أنظمتها، ومنهم جنرالاتٌ لا يختلفون عن جنرالات السودان في شيء، يجنحون إلى ترجيح السلبي على الإيجابي بإثارة ما يفرّق لا ما يجمع، وما يشعل الحروب لا ما يطفئها.
(7)
السياسة الخارجية في كلّ الدّول الرّاشدة تدار عبر الجهاز الدّبلوماسي الرّاتب للدولة، يتولاه متخصّصون خبروا دقائق المهنة الدبلوماسية، عبر تجريب صقلته الممارسات العملية والدراسات السياسية المتقدّمة، وذلك مما تستلزمه معالجة التواصل بين الدول والشعوب، عبر أطر وأجهزة دبلوماسية، من حصافة ومن حكمة، إذ الهدف، في آخر الأمر، هو تحقيق الاستقرار وصيانة السلم والأمن وإشاعة الطمأنينة. ذلك هو التعارف الذي ورد في الآية الكريمة “… وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا”.
يطرح البرهان مبادرة سحب الجيش من الساحة السياسية، لكنّها مبادرةٌ ماكرة ستخرج الجنرالات من الباب، لكنّهم سيعودون من الشباك
للمؤسّسات العسكرية تخصّصها في الأمن وصيانة الاستقلال وحفظ الهيبة والدفاع عن البلاد، ولكن ليس لها أن تحكم وتدير شؤون البلاد بما ليس من مهامها الأساسية، وليس لها من تكليف بإحكام التعارف بين الشعوب.. هذه من الأمور البدهية، فلا يحتاج العسكريون أن يتلقّوا دروساً فيها. ليس من تفسير واحد لتشبّثِ جنـرالات السّودان بكراسي الحكم، إلا إنْ كان لهم تعلقٌ مرضيّ بالتسلّط على الناس، وكانت تجري في عروق بعضهم جينات الطغيان، فتملكتهم غريزة استعباد الناس وقد خلقتهم أمهاتهم أحراراً.
تمكين الإسلامويين السودانيين وزمرهم، في الجيش أو في الخدمة المدنية، بما فـيها الخدمة الدبلوماسية، أسلوب قديم اتبعه عمر البشير وحزبه الحاكم، بقصد السيطرة على مفاصل الدولة، وذلك ما أبقاهُ ثلاثين عاماً في كرسي الحكم جاثماً على صدور السودانيين كلّ تلك الفترة الطويلة. لكنّ حكمه انهار آخر الأمر، ولفظه التاريخ، وها هو حبيس قضبان سجنه في الخرطوم. يعلم جنرالات السودان ما يعنيه التسلط والطغيان، لكنّهم ساعون إلى اختراع نظام طغيان جديد مثل نظام البشير، بل أشدّ ظلماً وطغياناً.
(8)
يا ثوار السودان القاصدين الحرية والديمقراطية والعدالة والسلام، لا تغرّنكم مبادرات المكرِ من جنرالات طامعين، وحتى لا تذهب ماء ثورتكم التي شهد بعظمتها العالم من حولكم، تماسكوا حول شعاراتكم، وإلّا ستؤكلون على حين غرّة، بعدما أُكل الثور الأبيض في الأسطورة.
جمال محمد ابراهيم
العربي الجديد