خلطت خطوة رئيس مجلس السيادة السوداني، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، بإعلانه الانسحاب من الحوار بحجة إفساح المجال أمام القوى السياسية للاتفاق على تشكيل حكومة مدنية بعيداً عن الجيش، الأوضاع في البلاد، فإضافة إلى دفعه الآلية الثلاثية لإعلان وقف الحوار، فإنه وضع القوى المدنية أمام تحدي التوصل إلى توافق حول تشكيل سلطة لإدارة السودان وقيادته نحو انتخابات تكرّس الحكم المدني الذي تطالب به، في ظل وجهات نظر متباينة بينها، وتوجس دفعها للانخراط في عملية سياسية بمشاركة أطراف من نظام عمر البشير.
أما في الميدان، فتواصلت في الخرطوم اعتصامات منادية بسقوط حكم العسكر، في ظل تأكيد لجان المقاومة مواصلة الاحتجاجات وتنويع أشكال المقاومة خلال الفترة المقبلة.
تعليق الحوار في السودان
وكان البرهان قد أعلن الإثنين الماضي أن المؤسسة العسكرية قررت الانسحاب من الحوار الذي يرعاه وسطاء دوليون، ورد ذلك لإفساح المجال أمام القوى السياسية للاتفاق على تشكيل حكومة مدنية بعيداً عن الجيش، مع إعرابه عن أمله في انخراط القوى السياسية في حوار جاد يعيد وحدة الشعب السوداني، وتعهده بحل مجلس السيادة عقب تشكيل الحكومة المدنية مباشرة.
تبع ذلك إصداره أمس الأربعاء مرسوماً دستورياً بإعفاء جميع أعضاء مجلس السيادة من المدنيين، مع الإبقاء على العسكر و3 من حركات الكفاح المسلح. وأوضح بيان صدر عن المجلس أمس، أن القرار شمل 5 أعضاء هم كل من رجاء نيكولا عبد المسيح، ويوسف جاد كريم، وسلمى عبدالجبار، وعبدالباقي عبدالقادر، إضافة إلى أبوالقاسم برطم. وكان البرهان قد أعاد في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تشكيل مجلس السيادة وأبقى فيه على العسكريين، فيما أبعد ممثلي تحالف “الحرية والتغيير” وعيّن 5 مدنيين ممثلين لأقاليم السودان.
وإزاء هذا التطور، أعلنت الآلية الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد”، أمس، تعليق إجراءات الحوار الذي ترعاه. وعزت قرارها إلى انسحاب المكون العسكري من الاجتماعات وعدم الاستمرار في الانخراط في الاجتماعات مع المكون المدني إلا بعد حدوث اتفاق مدني-مدني.
وفي 8 يونيو/حزيران الماضي، انطلقت في الخرطوم عملية الحوار المباشر برعاية الآلية الثلاثية لإنهاء الأزمة السياسية، لكن من دون مشاركة أبرز القوى المدنية، ومنها تحالف “الحرية والتغيير”، وبعدها أعلنت الآلية تأجيل جولة الحوار الثانية إلى موعد لاحق.
من جهته، اعتبر وزير الخارجية السوداني علي الصادق، أن قرارات البرهان أوضحت بجلاء عزم الجيش الانسحاب من العمل السياسي، المتمثل في الوساطة الثلاثية التي ترعاها الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة “إيغاد”.
وزير الخارجية: الجيش لن ينخرط في أي عملية تفاوضية بشأن اختيار رئيس الوزراء المدني أو تكوين حكومة كفاءات مدنية
ووفق بيان للوزارة أمس، أبلغ الصادق السفراء وممثلي المنظمات الإقليمية والدولية المعتمدة لدى السودان، أن الجيش لن ينخرط في أي عملية تفاوضية بشأن اختيار رئيس الوزراء المدني أو تكوين حكومة كفاءات مدنية. وأشار الى أن العملية السياسية ستكون مدنية خالصة وفقاً للصيغة التي كان تطالب بها القوى السياسية، لافتاً إلى أن الحكومة المقترحة ستكون مسؤولة عن صياغة وتنفيذ السياسة الخارجية للدولة وبسط واستتباب الأمن وإعادة الاستقرار في البلاد ومعالجة الضائقة المعيشية والترتيب للانتخابات.
وإزاء رمي البرهان الكرة في ملعب القوى المدنية، فإن الأخيرة تختلف نظرتها لهذا التطور، خصوصاً في ظل مطالبات لها بضرورة تسريع التوافق حول رؤية موحدة للمرحلة المقبلة بما يشمل شكل الحكم والانتخابات وعدم الاكتفاء برد الفعل على ما يقدمه العسكر من مقترحات.
وقال عضو المكتب التنفيذي لـ”قوى الحرية والتغيير”، كمال بولاد، لـ”العربي الجديد”، إن مطالبة البرهان لهم بالحوار مع المكونات المدنية ما هي إلا عملية التفاف على مطالب الثورة الداعية لإنهاء الانقلاب أولاً ومن ثم الدخول في ترتيبات ما بعد الانقلاب. وأضاف أن المكونات المدنية التي يعنيها البرهان هي مكونات مؤيدة لانقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وشاركت بتهيئة الأجواء له، كما يعني البرهان مكونات مدنية أخرى كانت جزءاً من النظام السابق حتى آخر ساعة قبل سقوطه في إبريل/نيسان 2019.
واعتبر أن البرهان بطلبه ذلك لا يرمي الكرة في ملعب المدنيين إنما يريد أن تتفاوض عنه قوى سياسية متحالفة معه، ويسعى في الوقت نفسه للهيمنة على كل السلطة من خلال مقترحه بتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة، مشدداً على أن تحالف “الحرية والتغيير” لن تنطلي عليه تلك المراوغة.
وأشار بولاد إلى أن هناك قوى سياسية أخرى بعيدة عن “الحرية والتغيير” لكنها جزء من قوى الثورة، مثل الحزب الشيوعي السوداني، وتجمع المهنيين، ويجري معها حوار وصل مرحلة تبادل المواثيق، ومن المؤكد سيتم الجلوس معها لتشارك في كل ترتيبات إسقاط النظام وما بعد بذلك.
وأكد بولاد أن المكون العسكري أغلق الباب أمام عملية الحلول السياسية تماماً بتصرفاته تلك وزاد عليها بتعامله العنيف مع مليونية 30 يونيو/حزيران الأخيرة، ما أدى لسقوط 9 قتلى وعشرات المصابين، مشدداً على أنه لا يمكن التفاوض في تلك البيئة.
بولاد: المكون العسكري أغلق الباب أمام عملية الحلول السياسية تماماً بتصرفاته
لكنه أوضح أن الآلية الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي و”إيغاد” دعت لاجتماع مع المكتب التنفيذي لـ”الحرية والتغيير” اليوم الخميس، وأن المكتب سينظر في أي مقترحات تقدمها الآلية ثم يرد عليها، منوهاً إلى التحالف يتمسك بمطالبه للآلية بتحديد أطراف الحوار ووضع إنهاء الانقلاب كأساس وتحديد سقف زمني للعملية السياسية التي تتبناها.
وكان تحالف “الحرية والتغيير” قد رفض الثلاثاء ما جاء في خطاب البرهان، واعتبره مراوغة جديدة من الانقلاب. وقال عضو المكتب التنفيذي للتحالف، عمر الدقير، في مؤتمر صحافي في الخرطوم، إن جوهر الخطاب لا يعدو كونه فرض وصايا على خيارات الشعب من خلال تحديده لشكل الحكم وشكل الحوار بين القوى السياسية ونتائجه، وهو أمر لم ولن تقبله “الحرية والتغيير”.
مقابل ذلك، أبدى القيادي في قوى الميثاق الوطني، القريبة من الانقلاب العسكري، الهادي عجب الدور، استنكاره لرفض “الحرية والتغيير” الجلوس على طاولة الحوار، مشيراً إلى أنهم على استعداد للحوار مع كل أطراف المعادلة السياسية وشباب المقاومة والنقابات للوصول إلى توافق وطني من دون اختزال الفاعلية في تحالف واحد أو اثنين.
ونفى عجب الدور، لـ”العربي الجديد”، أن يكون تحالفهم جزءاً من مكون آخر أو داعماً للمكون العسكري أو خلافه، مشيراً إلى أنهم مجموعات حركات كفاح مسلح أتت بموجب اتفاق بينهم والدولة ويتمسكون بذلك الاتفاق ويسعون لإكمال عملية السلام بانضمام مجموعات أخرى غير موقعة على الاتفاق. واستنكر ما قال إنها “ادعاءات الحرية والتغيير ومضيها في مصادرة قرار السودانيين من الخرطوم، بينما بات لكل الولايات والأقاليم صوت قوي ليس صدى لما يحدث في الخرطوم”.
مطالبات بتوضيح خطاب البرهان
لكن الشكوك حول خطاب البرهان امتدت لشركاء السلام من الحركات المسلحة، بمن في ذلك أعضاء مجلس السيادة الممثلون لتلك الحركات. وقال عضو مجلس السيادة، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال، مالك عقار، في بيان، إن الموقف الذي طرحه البرهان هو موقف إيجابي وخطوة إلى الأمام ويعبّر عن وجهة جيدة نحو إخراج المؤسسة العسكرية من العملية السياسية وحصر دورها في مهامها الطبيعية المتعلقة بالأمن والدفاع ويجب تشجيعها.
وأضاف أن ذلك الموقف يعبّر عن بعض مطالب الشارع المتعلقة بإنهاء الشراكة وخلق علاقة صحية بين مؤسسات الدولة المختلفة، وإغلاق باب التفاوض، كما اتخذ البرهان خطوة عملية باتجاه استعادة الشرعية.
وأكد عقار أن خطاب البرهان أجاب بشكل واضح على سؤال العلاقة بين المدنيين والعسكريين واستجاب إلى مطلب الشارع بإرجاع العسكر إلى الثكنات وأتاح فرصة تاريخية ينبغي على القوى الوطنية والشارع استغلالها والعمل على تحويلها إلى فرصة والعمل على توضيح واستجلاء ما كان غامضاً في الخطاب عبر تحديد الصلاحيات والمهام بشكل متفق عليه.
عقار: خطاب البرهان يحتاج إلى مزيد من التوضيح حول المهام والصلاحيات المنوطة بمكوّنات الحكم المختلفة
لكن عقار اعتبر أن الخطاب يحتاج إلى مزيد من التوضيح حول المهام والصلاحيات المنوطة بمكوّنات الحكم المختلفة، وخصوصاً صلاحيات ومهام المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مضيفاً أن هذه قضية نقاش سياسي ودستوري تحتاج إلى الوضوح الكامل.
وتعهد عقار بأن يقوم من موقعه كعضو في مجلس السيادة، ورئيس للحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، بتقديم مقترح تفصيلي لتوزيع السلطات والصلاحيات بشكل واضح في الأيام القليلة المقبلة، وتقديم المقترح لكل الأطراف الأساسية الممثلة في المكون العسكري والمكون المدني، وأطراف العملية السلمية.
وحث قوى المكون المدني وأطراف العملية السلمية للاتفاق الواضح وبشكل عاجل على تحديد الصلاحيات والمهام والواجبات والقيام بتشكيل حكومة لإدارة البلاد، تكون من أولى مهامها إجراء حوار وطني شامل يشارك فيه الجميع عدا حزب المؤتمر الوطني المحلول ويخاطب القضايا العالقة في الأزمة السودانية منذ الاستقلال.
لكنه أشار إلى أن خطاب البرهان أغفل الإشارة إلى اتفاق سلام جوبا، مشيراً إلى أنه لا يمكن تحقيق الديمقراطية والاستقرار والحكم المدني في السودان من دون السلام الذي تم تحقيقه واستكماله مع الأطراف الأخرى غير الموقعة. ولفت إلى أن “الخطاب ترك مساحة عملية لتنفيذ الاتفاق وتطويره، وهذا هو الهم الذي ينبغي أن نعمل عليه كأطراف السلام”.
العربي الجديد