تتشابه قصص المحمل الشريف الذي يتقدم قافلة الحجاج لينقل كسوة الكعبة المشرفة إلى مكة، ما بين الشام ومصر والسودان. ولما كان جوهر الرحلة التي تجمع الحجاج ويتقدمهم المحمل، تنطوي على أبعاد دينية وثقافية، مع كثير من العناء نتيجة مشقة السير على الأقدام وعلى ظهور الإبل، والتي تستمر أشهراً عدة، فإن الحكام والسلاطين في هذه البلاد ربطوها بمراسم ملكية وطقوس واحتفالات دينية، تبدأ بالتحرك منها وسط مواكب مهيبة وصولاً إلى وجهتها. وارتبطت كسوة الكعبة بالتقرب إلى الله، منذ أن كساها النبي إسماعيل بعد أن رفع القواعد من البيت مع أبيه النبي إبراهيم، مروراً بتعاون القبائل العربية على توفير كسوتها ثم سلاطين وحكام الدول الإسلامية، إلى أن أمر الملك عبد العزيز بأن تصنع كسوة الكعبة في مكة.
ثمة علاقة روحية خاصة تجمع المسلمين من السودان وغرب أفريقيا في رحلات الحج السنوية، فهي تجربة تتجاوز مفهوم رحلة الحج الاعتيادية إلى حد بعيد، تفيض بها ذاكرة تلك الفترة منذ قرون بمظاهر وتفاصيل متنوعة تجعلها من أكثر الرحلات الدينية خصوصية وتفرداً، حيث كان حجاج من (بلاد السودان) وهي حسب المؤرخين المنطقة الممتدة جنوب الصحراء الكبرى من المحيط الأطلسي إلى بلاد النوبة على نهر النيل، يسلكون الصحراء في صعود على الكثبان الرملية وهبوط نحو الوديان ومروراً بالواحات والمساحات المكسوة بالخضرة، وتعد الرحلة الأكثر تنوعاً من بين الرحلات الأخرى التجارية أو الحربية أو الفتوحات العسكرية، ما انكشف عنه الستار في ذلك الزمان. وتابعه المؤرخون المسلمون.
“المحمل الشريف”
عندما كانت قوافل الحج تشد الرحال، كان صوت الحادي ينطلق مع الرحلة التي تبدأ من غرب السودان إلى مكة، وهم يعبرون كل المحطات الممتدة على طول الطريق، تصل إلى الأسماع صوت القصائد النبوية (المدائح) التي يصدحون بها، ممزوجةً بالدعاء والتلبية، من دون انقطاع إلا في الليل أو أثناء ساعات الراحة. وكان يتقدم قافلة الحجاج، المحمل الشريف وهو “الهودج المصنوع بغرض نقل كسوة الكعبة المشرفة، وعادة ما كان الهودج يحمل فوق جمل له رقبة مطلية بالفضة ومغطاة بالحرير الأصفر، وينقش على قماش الهودج آيات قرآنية ورسوم زخرفية مطرزة بخيوط من الحرير الذهبي، ويزين رأس الجمل حامل الهودج بالعقود الملونة”.
وتذكر بعض المراجع أن “السلطان المملوكي الظاهر بيبرس هو أول من أرسل محملاً مرافقاً لقافلة الحجاج إلى مكة من مصر عام 1272، وخصص للكسوة مراسم ملكية وطقوساً دينية، واستمر ذلك طوال العصر العثماني”.
مكانة علي دينار
حاز السلطان علي دينار، آخر سلاطين الفور، على مكانة كبيرة لدى السودانيين، إذ حكم سلطنة الفور الإسلامية في الفترة من 1445 إلى 1916، ونظم إدارة سلطنته وفقاً للتعاليم الإسلامية ونشر العدالة الاجتماعية، كما حاز على مكانة دينية في منطقة غرب أفريقيا بتأسيس خلاوي القرآن والمحاكم الشرعية، وتنظيمه قوافل الحج وحمايتها بواسطة جنوده، حتى أطلق عليها مسلمو غرب أفريقيا “دفتي المصحف”. ويرجع أصل علي دينار إلى قبيلة الفور التي تقطن حتى الآن في غرب السودان وصيغ منها اسم دارفور. ويعرف عنه قربه من دولة الخلافة العثمانية ومحاربته الإنجليز، وفي الحرب العالمية الأولى سعى إلى التحالف مع دولة الخلافة العثمانية وأعلن معارضته للإنجليز واستعد للحرب، ولكنه هزم وقتل عام 1916 في معركة “برنجية” على تخوم مدينة الفاشر عاصمة السلطنة، دارت بين جيشه وقوات الاستعمار الإنجليزي. ووضعت هذه المعركة سلطنة الفور تحت الحكم الإنجليزي كآخر رقعة تخضع له من الدولة السودانية.
نشاط دبلوماسي
وفي رحلة الحج، يتجلى تحفيز الزمان والمكان، ويكاد كل ما يصاحب محمل الحج يبدو أكثر أهمية، والحجاج وكأنهم وهبوا حياةً جديدة. ويتمثل الحج عند المسلمين بأنه إعادة ضبط يتجاوز به المرء الأخطاء السابقة، والرحلة نفسها من أكثر الأمور متعةً على الرغم من مشقتها. ويمكن رصد عالم الاحتفاء المسرحي والشعبي قبل خروج المحمل من دارفور ومروره بكردفان ثم يشق طريقه إلى البحر الأحمر عبر سواكن إلى مكة. في هذه الرحلة، كان حضور دارفور عبر صفحات سطرها المؤرخون منذ بداية تسيير المحمل وجهته في مكة، ثم الاحتفاء بعودة الحجاج بعد أداء الشعائر المصحوبة بمهمتهم الرئيسة.
مع أن هناك نصوصاً كثيرة عن هذه القصة التي تعكس التحولات الدينية والاقتصادية وانعكاسها على حياة الناس والمظاهر الاجتماعية، إلا أن ما عكسه كتاب آخرون مثل آلن ثيوبولد ونعوم شقير وعون الشريف قاسم، تناولوا تلك الفترة من تاريخ دارفور، رصدت في جانب منها علاقة السودانيين برحلات الحج، كما عبرت عن خلق زعامات محلية في السودان. ففضلاً عن ارتباط دارفور كامتداد لغرب أفريقيا في تعلقها ببلاد الحرمين الشريفين، أقام علي دينار علاقات سياسية خارجية واهتم بسلطنته، فكون جيشاً حديثاً بمقاييس ذلك الوقت استعان به محمد علي باشا.
قال الباحث الأكاديمي عبد الله آدم خاطر عن السلطان علي دينار، إنه “كان رجل دولة وصاحب سلطة، وكان المحمل جزءاً من أنشطة الدولة الدبلوماسية الاقتصادية، كوسيلة تواصل بين سلطنته والعالم الإسلامي، خصوصاً أن ملامح حكمه تخللتها حروب داخلية وتوترات وصراعات خارجية، ولكن على الرغم من ذلك، فإنه استطاع أن يتواصل مع العالم الخارجي وأن ينشط خدماته وعلاقاته خارج حدود سلطنته، والحفاظ على استقلال منطقته لفترة طويلة”. وأضاف “ما ساعد على ذلك أن علي دينار وقع اتفاقاً مع الحكومة البريطانية بأن يدفع جزية قدرها 500 جنيه، يتمتع مقابلها بحريته وعلاقاته الخارجية مع الدول الإسلامية”.
مسيرة المحمل
وعن خط سير المحمل، قال خاطر إن “تسيير علي دينار المحمل السوداني هو محل تقدير قومي من كل السودانيين، ومحل احتفاء واضح في المناطق التي كان يمر بها ويلتحق به الحجاج، ولولا وجود المستعمر في ذلك الزمان، لكان أثره أكبر من ذلك”. وأضاف “فكرة المحمل نشأت في سلطنة دارفور لأنها سلطنة إسلامية، وهي أقوى من بقية السلطنات في المنطقة مثل سلطنة سنار وغيرها”.
وأوضح خاطر “كان التجمع يتم في مدينة الفاشر عاصمة السلطنة (وهي حالياً مركز ولاية شمال دارفور)، بعد تجمع الحجاج من منطقة غرب أفريقيا في شمال غربي مدينة زالنجي عند نقطة تسمى (أجاكاري)، وهي عبارة باللغة المحلية تعني (الحجاج أتوا)، وأصبحت هذه المنطقة مرتبطة بالحجاج حتى وقت قريب. ومنها ينطلق المحمل عابراً حتى يصل إلى مدينة أمدرمان عاصمة السودان الوطنية، ومنها إلى بربر ثم جزيرة سواكن شرق البلاد، حيث كانت تشرف على تأمين الرحلات البحرية جيوش السلطان دينار حتى تبلغ الأراضي المقدسة. ومن أشهر من قاد المحمل هو الشيخ الشيماوي من أبناء رفاعة، وهناك غيره من أبناء المنطقة كانوا على رأس المحمل في سنوات مختلفة”.
وعن محتويات المحمل، ذكر خاطر “إضافة إلى كسوة الكعبة التي تمثل رمزاً للمحمل كله، فإن هناك مخصصات من الهدايا والأوقاف. وهناك خراج المحاصيل الزراعية الذي يذهب للفقراء في الحج. كان السلطان علي دينار يأمر بجمع منتجات دارفور الأساسية الزراعية أو الحيوانية، مثل الإبل والصمغ العربي ومحصول الكركدي والفول السوداني وأغلب منتجات السافنا الغنية، لتباع في مصر التي مثلت مركزاً للتجارة في العالم الإسلامي بثقلها الاقتصادي ومنفذاً إلى أوروبا، ويسمى المال المتحصل من عملية البيع (صرة الحرم الشريفة)، ترفق مع المحمل في صندوق خاص لتوزع على فقراء مكة وفقراء الخليج والحجاج، ويشرف عليها شخص يقوم بمهامها وهو أمين الصرة، وهناك أمين التموين مسؤول عن المواد التموينية المستخدمة أثناء الرحلة”.
وتابع “استمر تسيير علي دينار المحمل حتى مقتله، وفي ثلاثينيات القرن الماضي جدد ابن أخت علي دينار، السيد عبد الرحمن المهدي وكبار تجار أمدرمان تسيير المحمل، وحافظوا على اسمه للعلاقة التي تربط المهدي بالسلطان. وبعد انقطاعه ظل المحمل جزءاً من التراث الديني والنفسي والاقتصادي والاجتماعي للسودانيين ولأبناء دارفور”.
طقوس باقية
وإن غاب المحمل، فإن التراث الاجتماعي يحتفظ بالطقوس الدينية المصاحبة، خصوصاً المدائح التي تردد في مواسم الحج ويرد فيها اسما مكة والمدينة، ويكتب عدد من أبياتها على جانبي الجدران من باب منزل الحاج أو الحاجة. وهناك من الشيوخ صائغي المدائح المعروفين الشيخ البرعي، وحاج الماحي، وحاج العاقب، وود تميم، ومحمد أبو كساوي، وأحمد الدقوني الكبير، وعلي ود حليب، وغيرهم.
وذكر الكاتب محمد المهدي بشري أن “الشاعر قرشي محمد حسن جمع مجموعة من المدائح النبوية والشعبية في السودان، في كتاب سماه (مجموعة القرشي) منها عدد خاص من فنون المدائح النبوية الشعبية التي تصاحبها الآلات وهي الطار، والعصي، والتصفيق بالأيدي أو بأطراف الأصابع”.
وأوضح بشري أن “الطار هو أقدم آلات الطرب التي صاحبت قصائد المديح النبوي الشعبي الذي يعكف فيه الشاعر على مناقب الرسول الكريم. وقد أفرد قرشي في كتابه لبعض ملامح أداء المديح الشعبي مثل قواعد إنشاد المدائح والوجود والرقص على الدفوف”.
ومثل ما ورد ذكره، بقي أثر من ذلك حتى الآن يعكس أهمية رحلة الحج بالنسبة إلى السودانيين والتمسك بطقوسها منذ تسيير المحمل الشريف، فعند بيت الحاج تقام حلقة لوداعه قبل ذهابه إلى مكة، يقوم المادحون بزيارته ويستقبلهم أهله بالولائم، وتقام حلقة المديح وسط زغاريد النساء، ويفعل مثل ذلك بعد عودته من الحج.
مني عبد الفتاح
إندبندنت عربية