هل تذكرونهما؟..
ربما يتذكرهما أبناء جيلي؛ بمثلما يذكرون مجلات ميكي… وسمير… والصبيان..
فهما من الشخصيات المضحكة في إحدى مجلات ذياك الزمان..
ولا أدري إن كانت هذه المجلة تصدر إلى يومنا هذا أم توقفت… وكذلك مجلة ميكي..
وتذكرتهما الآن حين تذكرت محللينا الاستراتيجيين..
فنحن – بسم الله ما شاء الله – لدينا من ذوي الاستراتيجية هؤلاء ما لا ينافسهم عددا إلا (القونات)..
والقونة – لمن لا يعلم – هي المغنية ذات النقطة..
ومن أراد أن يعلم أكثر فليجتهد من عنده؛ فأنا نفسي لم أعرف معنى القونة إلا قبل شهرين..
المهم؛ ما من دولة تنافسنا الآن في عدد الاستراتيجيين..
سواء المحللين منهم أو الخبراء؛ ولا تسلني عن الفرق بينهم… اسأل أجهزة الإعلام..
كما لا تنافسنا دولة في عدد المغنيات الهابطات..
والفرق بين المحلل والهابطة أن الأخيرة هذه تهبط عليها النقطة؛ بينما الأول بالكاد يحلل جهد تحليله..
وهو في الغالب جهد لا قيمة له… تماماً كجهد القونة..
فالقونة لا تخرج من عند حفلتها بأية قيمة فنية… ولا صوتية… ولا موسيقية… ولا شعرية..
فقط أي كلام من قبيل (خبطته الركشة) وخلاص..
والمحلل الاستراتيجي – أو الخبير ذو الاستراتيجية – لا تخرج من كلامه بأي شيء ذي قيمة..
لا قيمة خبرية… ولا تحليلية… ولا تنبؤية..
فهو لا يخبرك أبداً بما سيحدث في الغد وفقاً لمنطق؛ معطى… فقياس… فخلاصة..
وإنما فقط يلت ويعجن فيما هو معروف للمتلقي بالضرورة..
وبمعنى تبسيطي أكثر؛ لا يفعل إلا ما كان يفعله تك وتاك عند تحليلهما أمراً أشكل عليهما..
كأن يقول تك مثلاً: إني أرى أن طريق الخروج من الغابة هو هذا..
فيرد عليه تاك من فوره: لا… لا… أنت غلطان… بل طريق الخروج هو هذا..
ويكون الطريق الذي أشار إليه هو ذاته الذي أشار إليه تِك..
فإن خرج المحلل – أو الخبير – عن المألوف… وتنبأ… يكون تنبؤه من منطلق أهواء ذاتية..
بمعنى بما يريده هو أن يحدث؛ ولو كان ضد منطق الأشياء ..
وكمثال – محلي – على ذلك ما كان يفعله محللو الإنقاذ إبان ثورة ديسمبر عبر وسائل إعلامها..
عبر الصحف… أو الإذاعات… أو الفضائيات..
فكل لتهم وعجنهم ينتهي إلى خلاصة واحدة؛ الثورة تنحسر… والنظام ينتصر..
حتى كبيرهم إسحاق لم يغادر هذا المتردم العاطفي..
وأذكر حين كتبت كلمة بعنوان (فات الأوان) – أواخر عهد البشير – سخر مني كفاحاً… وحرفاً..
وكانت كلمة تنبأت فيها بقرب سقوط الإنقاذ..
سخر وقال إن الذي (فات أوانه) هو أحلامنا بزوال نظامه الإسلاموي..
أو – اقتباساً من رائعة ابن البادية – (نحنا أوانا فات)؛ ففات نظامه بعد أقل من شهرين..
أما كمثال خارجي – مصري – محمد حسنين هيكل..
ليس لأنه مصري وحسب؛ وإنما لأنه كان كبير المحللين الاستراتيجيين عند غالب العرب..
رغم إنه لم يتنبأ بحدوث شيءٍ ما – وحدث – قط..
أو حدث عكسه تماماً؛ لأنّ الحتميات الواقعية لا دخل لها بالرغبات العاطفية..
ومن ذلك توقعه بانتصار مصر على إسرائيل عام 67..
بينما عدوه اللدود – بحسب تصنيف العلاقة بينهما آنذاك – أنيس منصور توقع الهزيمة..
هل لأنه يريدها؟… قطعاً لا… ولكنها قراءة منطقية للواقع..
وفي مطلع هذه الألفية تنبّأ بانفصال الجنوب… والربيع العربي… وتطورات السعودية..
فهو لا يتكلم في السياسة كثيراً مثل هيكل… بلا معنى..
ولكن إن فعل كان لكلامه ألف معنى؛ دون أن يدعي إنه محلل – أو خبير – استراتيجي..
وكاتب هذه السطور يفخر بأنه تلميذ المدرسة الأنيسية..
أو الأنيسية الفلسفية؛ فهكذا علّمتنا الفلسفة….. ذات المنطق..
فالفلسفة – بمنطقها – تعلمك كيف تدوس على مشاعرك وأنت تقرأ الأحداث..
وأن تقول الخلاصات كما هي حتى وإن كانت ضد أهوائك..
وكان بالقاهرة حين تنبأ بفوز ترمب – خلافاً لكل التوقعات العاطفية – فسخر منه البعض..
وما تنبأ به – وحدث – كثير؛ وليس هذا مجال حصره..
ولكن ما يهمنا الآن هو أن يجتهد محللونا – وخبراؤنا – الاستراتيجيون..
أن يجتهدوا في مغالبة العاطفة..
عليهم أن يعلقوا عباءات انتماءاتهم الفكرية – والسياسية – على مشاجب أبواب التحليل..
سواء كان باب غرفة تحرير… أو ستوديو تلفزيون… أو إذاعة..
فكذلك كنا نُطالب عندما نلج قاعة الفلسفة؛ حتى انتماءنا الديني كنا نُطالب بنزع عباءته..
فإن جلسنا داخل القاعة كنا عقولاً محضة..
ثم – والذي هو أهم منذ ذلك – أن يكون لديهم القدرة على التنبؤ؛ وليس فقط اللت والعجن..
وبالأمس شاهدت اثنين من المحللين الاستراتيجيين عبر الشاشة..
كان أحدهما تِــــــك..
والثاني تـاك!!.
صحيفة الصيحة