لا تزال ممارسة التقاليد تسيطر على المجتمعات الأفريقية، وعندما ترتبط هذه الممارسات بالجسد يكون للمرأة النصيب الأكبر من التركيز والاستهداف، وتأخذ هذه الممارسات الطقسية شكلاً احتفالياً يتساوى فيه الرجل والمرأة بالتلوين والرسم وتزيين الجسد عن طريق الوشم أو الوسم، أما في حال اتخاذ تلك الممارسات شكلاً مأساوياً فتنفرد بذلك المرأة وحدها، مما شرعن العنف ضدها تاريخياً بأنواع وأشكال عدة.
وعلى الرغم من اختراق التمدن تلك المجتمعات وبذل برامج التوعية من قبل المنظمات الدولية التي تدخل لتلك المناطق في ظروف الحروب والنزاعات والمجاعات لتكتشف هذه الممارسات، إلا أنه لا تزال بعض المجتمعات القبلية والإثنية في أفريقيا تخضع النساء لأحكام ناتجة من معتقدات يصعب زحزحتها. وعموماً لا تأبه معظم الدول الأفريقية بالتشريعات والقوانين وحقوق المرأة، وبالتالي لا تستطيع تجريم كثير من الممارسات، وعليه فإن مجتمعاتها المنغلقة على عاداتها وتقاليدها تكون الأبعد من ذلك، ولا يعير الرجل المرأة اهتماماً إلا كامتياز يبذله مضطراً في حال كونها منتجة أو ابنة زعيم قبيلة.
جذور الممارسات
تأخذ التقاليد المرتبطة بالأديان والمعتقدات الروحانية موقعاً متقدماً في استغلال جسد المرأة وشيطنته، ويتجسد ذلك في جلسات العلاج الروحانية من أي شكوى، سواء أكانت معنوية مثل عدم الزواج أو عدم الإنجاب أو الوسوسة أو معاملة الزوج، أو حسية مثل الأمراض الجسدية المختلفة، فيقوم الممارسون لهذه الطرق من العلاج بتقييد المرأة بالسلاسل وضربها بعنف خلال شعائر مخيفة بغرض إخراج الجن من جسدها.
كما يشتهر في بعض المجتمعات ربط المرأة بحالات التلبس، فإذا وقعت أي حادثة في القرية مثل حرق القطاطي (بيوت القش) أو انهيار الأكواخ أو الجدران أو حرق المحاصيل أو السرقات المختلفة أو حوادث القتل، تشير أصابع الاتهام للمرأة التي تدور حولها شبهات حول سلامتها العقلية أو حالها النفسية أو معاملتها القاسية لأهلها وجيرانها، كما تستهدف المرأة التي تعيش في عزلة اجتماعية أو نفسية لأي سبب.
ونجد في بعض المجتمعات الأفريقية أن النساء هن الأكثر اتهاماً بممارسة السحر والشعوذة، وعلى الرغم من سطوة هؤلاء النساء فإنهن يخضعن للممارسين الدينيين لتحريرهن من تلك الممارسات، إذ يقيدونهن ويلقون عليهن تعويذات في شعائر تستمر لأيام وربما لأشهر حتى لا يعدن إليها.
وكذلك نجد استهداف بعض النساء اللاتي يكن في حالات اجتماعية خاصة، مثل تلك التي تتزوج أكثر من مرة ويموت أزواجها، أو الطفلة التي تموت أمها أثناء عملية ولادتها، فتأخذ هذه الطفلة وصمة القتل حتى تكبر معها.
الجسد كهدف
يقول الباحث الأنثروبولوجي مبارك حتة إن “النظرة إلى المرأة في السودان تتباين بين الشمال والجنوب وفقاً لما يختزنه المجتمعان المختلفان اختلافاً بائناً، ففي شمال السودان قديماً كان يطلق على المرأة (الكنداكة) وهو لقب الملكة، لكن مع تداخل بعض الثقافات من دول أخرى حدث تنميط لدور المرأة، وأدى ذلك إلى ضعفها والانتقاص من مكانتها، وفي الفترة الوسطى بين ما قبل التاريخ والتاريخ الحديث اتخذ التعبير عن قهر المرأة هدفاً واضحاً وهو جسدها”.
وأوضح أن “الختان الفرعوني هو أحد العادات السائدة في القبائل الشمالية والتي تتم محاربتها بالتصدي لها عبر منظمات المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية”.
وأضاف، “أما المجتمعات الجنوبية التي تعتمد على الطابع العشائري فلها معتقداتها الخاصة المتأثرة بشكل كبير بمعتقدات أفريقيا جنوب الصحراء، وهذه تتخذ من جسد المرأة هدفاً يتوقع منها الشر أكثر من الخير، فلكي تكون زوجة صالحة تتم صياغة جسدها وسط طقوس من التعذيب تصل إلى الوسم من طريق الحرق بالنار في بعض أجزاء جسدها، وإذا كانت أرملة يمكن أخذها ضمن ميراث أهل زوجها”.
حلقات الزار
وأوضح حتة أن “الزار يدخل ضمن ممارسات الجسد، وهو وإن كانت تؤديه المرأة بنفسها فهو تعبير عن الضمير الداخلي الرافض لبعض الأقدار أو الممارسات الأخرى الواقعة عليها، وتكون مدفوعة إلى ذلك بشكل غير مباشر من مجتمعها”.
وأضاف، “عند ممارسة المرأة تحضير الجن (الريح الأحمر) تخاطب خلاله ضمير الغائب، ويظهر عند امرأة لم تجد حظها من الزواج، مثلاً، كحال من التعبير عن الانتقاص الداخلي، فتنحو نحو الانعزال مجتمعياً وتبدو عصبية، وتصنف وفقاً لذلك كمريضة نفسياً، وعندها تكون على استعداد لتلبس الجن داخل جسدها، فتلجأ إلى الزار لتعقد مخاطبة بينها وبين الجن من خلال تعابير الجسد”.
وتابع، “ولا يقتصر الزار على من فاتهن قطار الزواج فقط، لكن حتى النساء المتزوجات يمارسنه للتفريغ النفسي الداخلي، فيفعلن أشياء لا يمارسنها في الواقع مثل تدخين السجائر أو الشيشة أو شرب الخمر، إضافة إلى الدخول في طقس فني ذي طابع ماجن، ويرقصن على طقوس معينة محاكاة للواقع الخفي استجابة لنداء الجن، ويمكنهن الحديث مع الجان كيفما شئن وبأي ألفاظ كانت ويطلبن الذهب أو المال، وخلال هذه الحلقات تقام الذبائح بطريقة مخالفة للشريعة الإسلامية”.
كما أورد الباحث الأنثروبولوجي، “تتداخل تفاصيل الزار بين السودان وإثيوبيا، ويشتهر عند ممارسات الزار السوداني مناداة شخصيات الجن باسم (الحبشي)، كما أن هناك خطاباً خاصاً لشخصية (لولي الحبشية) ليتم استحضارها بواسطة بخور معين”.
إسقاط نفسي
وفسر حتة أن “شيطنة جسد المرأة يجيء كنوع من الإسقاط النفسي عليها في الحالات المذكورة، وكذلك عندما تكون الفتاة قاصراً يفرض عليها الزواج من دون استشارتها في فترة نموها وتكوينها خوفاً من أن تكبر وتجلب العار، وهذا اضطهاد للجسد وتوقع الشر منه، وهذا النوع من عدم الأمان يتمحور حول الشر داخل المرأة، ويخلق ذلك معضلة مرضية نتيجة لترسبات نفسية تقودها نحو ممارسة الزار أو اللجوء إلى المعالجين”.
ويضيف، “كما أن هناك تراتبية عند النساء في حال الزار تبدأ من شيخة الزار التي تمارس سلطتها على غيرها، وتقود الطقوس التي يشيع فيها الرقص وأحياناً الضرب إذا تمردت إحداهن على إطاعة الجن”.
وتابع، “وفي بعض المجتمعات تدخل المرأة ضمن المتاع، فسلطان القبيلة يكون عنده حاشية من النساء، خمس زوجات أو أكثر من ذلك، وهناك قبائل معينة تهب بناتها للسلطان أو قائد القبيلة لينجب منهن وينالوا الحظوة كنوع من الرق المبطن”. وأضاف، “في امتلاك القبائل للرقيق يكون هناك تشبيك للصغار خصوصاً البنات ضمن المكون الأسري للعائلة المعروفة، فينشأن معهم، لكن البنات يعرفن حدودهن وأدوارهن المرسومة ويتم التفريق بينهن في حالات حاسمة مثل الزواج وغيرها”.
سجلات العنف
من جهة أخرى، توضح الاختصاصية الاجتماعية والنفسية عفاف حامد أن “تعامل عدد من المجموعات الإثنية الأفريقية مع جسد المرأة يدخل في مفهوم العيب، كما أنها تتعرض للعنف بسبب الفقر والحاجة، وهي أول من يستخدم جسدها كوقود في الحروب بالاغتصاب مثلما حدث في دارفور وأفريقيا الوسطى، فقد أورد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة نحو 6000 عملية عنف قائم على النوع الاجتماعي، نفذتها ميليشيات مسلحة بين يناير (كانون الثاني) ويوليو (تموز) 2021، وفي العام 2019 وثقت بعثة الأمم المتحدة نحو 1000 حالة عنف جنسي مرتبطة بالنزاعات المسلحة ضد نحو 600 سيدة و400 فتاة ارتكبتها الجماعات المسلحة”.
وأضافت عفاف، “كما يتعرض جسد المرأة للاستغلال الجنسي والعمالة القسرية، وتبدو كثير من الحكومات الأفريقية عاجزة أمام مكافحة العنف على أساس الجنس، وأي محاولات من قبل النشطاء ومنظمات المجتمع المدني لتغيير هذه الممارسات تصطدم بالتقاليد الراسخة والقوانين الضعيفة”.
ولفتت حامد إلى أن “عدم تحقيق أي تقدم ملحوظ في حماية المرأة من العنف الجسدي على الرغم من توقيع 53 دولة أفريقية العام 1995 على الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب يعود للمجتمع الذكوري الأفريقي، ويمكن ملاحظة ذلك في زواج القاصرات وممارسات الجماعات الإسلامية الإرهابية في أفريقيا، فعند النظر إلى ممارسات جماعة (بوكو حرام) واختطافها مئات الفتيات من المدارس في نيجيريا، يمكن إدراك أن هذه الجماعات تنطلق من تقليد ثقافي أفريقي يستبطن جسد المرأة عبر محاولة إيذاء المجتمع من خلال الأنثى التي تعد الحلقة الأضعف فيه”.
قوانين مقيدة
ويشكو حقوقيون ونشطاء أفارقة من أن عقبات عدة تواجه تطبيق “بروتوكول 1995″، وهو الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، ونظراً إلى ما تواجهه القوانين والتشريعات في المجتمعات الأفريقية تركز بنود الاتفاقات الحقوقية على إلحاق الاتفاقات الدولية بأخرى، فمثلاً تنص المادة (66) من الميثاق الأفريقي على أنه “إذا ما دعت الضرورة يتم استكمال أحكام الميثاق ببروتوكولات واتفاقات خاصة”، كما نبعت ضرورة إعداد بروتوكول حول حقوق المرأة في أفريقيا.
وعلى الرغم من اعتراف الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب بالمواثيق الإقليمية والدولية إلا أن تأكيد تطبيقها يصطدم بعراقيل كثيرة، يضعها الحقوقيون والنشطاء في الاعتبار من أجل دمجها في خطط التنمية الاجتماعية بصياغتها على نسق هذه المجتمعات، وحتى تسهم في تذليل كثير من العقبات.
مني عبد الفتاح
إندبندنت عربية