المسجد الذي يطل على مسكني في شارع يوسف باشا بلغ عمره ثلاثة قرون ونيف، وهى مناسبة رائعة للصلاة في مسجد عتيق يذكرك بعظمة الإسلام، وإمام يرتدي العمامة الأسطوانية الحمراء من تلقاء الأمجاد العثمانية، ويقرأ القرآن بلسَانٌ عربِيٌّ مُبين، مثل الطريقة التي كان يقرأ بها الصحابة، وقد عجبت أن الأتراك يحفظون القرآن بلغتنا وفي ذلك مشقة كما يبدو، وأعادني المسجد لقصة الأديب الأريب علي المك، (للمستشفى رائحتان)، مع ذلك الصبي الذي كبر، إذ كانت أمه تحبه وتحكي له قصص مثقلات بالخيال مثيرات، وكانت مغرمة بالحديث عن المساجد، في أم درمان واحد وخمسون جامع. تقول له: عشرة منها بلا مآذن، وهو ما زال يذكر أسماءها، ويسأل: أمي لماذا يسمونه الجامع الكبير؟ فترد عليه مسرعة، لأنه أكبر الجوامع، ومئذنته أطولها، ولأنه في قلب السوق ويؤمه خلق كثيرين مصلين داعين.
في ميدان تقسيم تخطر تركيا العلمانية بخطى وئيدة في معطف كمال أتاتورك العاري، وترى البنات في تنورات قصيرة ذات الوان براقة وجسد نحيف مغرم بالوسامة الأوربية، ثم تلتقط الأذن موسيقى الأندرون والتكايا التابعة للبلاط، أو تلك التي رافقت إنسان الأناضول على مدى قرون طويلة، فجأة ينبض في عروق الذاكرة نواح خليل فرح، وهو يناجي بعيداً ” نوح يا حمام أشرح طان ..وأروي العطشان.. حاكي الغمام.. يالسلطان عازلك غلطان”، وبعد تفوح طيب من جنائن هذه القصور العالية، سرعان ما أخذت لقيطة إسطنبول تغذّ الخطى وسط حشد من الناس يحملون مظلات، وهى تكشف عن ساقيها، وتعرج قليلاً على قدمها مثل نوتة موسيقية شذت عن اللحن، كانت خيطاً من الخزامى، فالسير في إسطنبول يعني الدخول في سيل جارف من الناس، هكذا تحكي إليف شافاق، وتنبهنا في المخطوطة الثانية بأن لا نخرق “قواعد العشق الأربعون” حين تستضيف ذلك اللقاء الصوفي المدهش بين جلال الدين الرومي ومرشده الروحي شمس التبريزي، فيقول الصوفيون إن سر القرآن يكمن في سورة الفاتحة، وسر الفاتحة يكمن في بسم الله الرحمن الرحيم، ويكمن جوهر كل ذلك في حرف الباء حيث توجد نقطة تحت هذا الحرف تجسد الكون كله.
لوهلة وأنا أمشي بمحاذاة مضيق البوسفور شعرت بحنين جارف إلى النيل، لكنني سرعان ما طفرت دمعة غالية مني عندما أدركت كيف أن الحكومات أهملت ذلك النهر العظيم، رأيت بيوت نجوم الدراما والسينما التركية يعيشون في قصور هائلة على ضفة البوسفور، ولكل يخت فاخر رابض تحت نافذته، أغلبهم جيران بالحيطة، الممثل التركي، كيفانتش الشهير باسم “مهند”، جارا للنجم التركي، كينان أميرزالي أوغلو، الشهير باسم “إيزل”، ويسكن الأثنان في حي “أميرجان” بمدينة اسطنبول، وهو حي يطل على مضيق البوسفور، وواحد من أرقى الأحياء بالمدينة، أما المطرب التركي وواحد من أوسم رجالها، تاركان تفات أوغلو، جارا للرئيس رجب طيب أردوغان، حيث تتواجد فيلا تاركان الخاصة في منطقة “طرابية” باسطنبول، وهي نفس المنطقة التي يتواجد بها قصر الرئيس التركي، أما الممثلة التركية، براق توزونتاتش، بطلة مسلسل “حريم السلطان”، فهى تسكن على مقربة وبذلك تكون جارة للنجمة التركية، جولسا بيرسال، ومن عجب أن إيرادات تركيا من المسلسلات بلغ 500 مليون دولار، وتخطط هذا العام لبلوغ المليار، ليس بهدف جمع المال، ولكنها تعتني بالكتابة والفن والدراما للحفاظ على قوتها الناعمة، التي تزحف في كل أنحاء العالم شيئًا فشيئا.
عزمي عبد الرازق