كانوا كأهل الكهف..
وكلبهم باسطٌ ذراعيه بوصيد محل أحدهم التجاري… عند أطراف حينا السكني..
تحسبهم أمواتا؛ وكذلك كلبهم..
ولولا جلوسهم على الكراسي متخشبين – ومتحنطين – لظننتهم فارقوا الحياة فعلاً..
وما كنت أدري أنهم تمنوا الفراق هذا… في تلكم اللحظات..
لحظات الحر اللافح… وانقطاع الكهرباء… وشح المياه… وانعدام مقومات الحياة..
فضلاً عن انقطاع… وشح… وانعدام حركة البيع..
فقد كانوا – إلا واحداً منهم – تجاراً… والواحد هذا كان يبدو أكثر رضا منهم بالمقسوم..
فهو معتادٌ على شظف العيش أصلاً..
كانوا – إذن – كأهل الكهف إلا في الذي تصير إليه هيئة المرء بعد ثلاثمائة عام..
وإلا لوليت منهم فراراً… ولمُلئت منهم رعبا..
ولكن الرعب هذا حدث لي من تلقاء الكلب… إذ كان يحدق في وجهي بغرابة..
يحدق رغم إنه نائم… أو مغشي عليه… أو ميت بالفعل..
فانفجرت ضاحكاً رغم كآبة المنظر؛ منظر صحابي… وكلبهم… وعموم الحال..
وتذكرت كلباً فجَّر من – وفي – داخلي ضحكاً مماثلاً..
وسنأتي لذكره في سياق حديثنا هذا الذي أحد أبطاله كلب؛ والشيء بالشيء يُذكر..
أو ربما كان الكلب هو الذي وصفه صاحب المحل بالكلب..
فإضافة إلى كل العوامل تلك التي جعلتهم أشبه بأهل الكهف كان ثمة عامل آخر..
وهو خداع أحد أهل السوق لصاحب محل حيّنا هذا..
ثم انتقلت عدوى الشعور بالمرارة لبقية مجالسيه فبدو كأهل الكهف… إلا قليلا..
ولكنا نبدأ بكلب شهيد صحافتنا محمد طه محمد أحمد..
وقد كان أحجم عن الكتابة حيناً بالزميلة ألوان… لأسباب خارجة عن إرادته..
وأول مقال ظهر له – عقب ذلك – كان على صفحات الدار..
وكان ذا عنوان غريب… كغرابة كلب أصدقائي هذا… وما زلت أذكره إلى اليوم..
ثم إن مضمون المقال نفسه كان عصياً على الفهم..
ورفض شرح معناه لي…. واكتفى بابتسامة حزينة… وفهمت منه إنه مشفر..
ونصيب القراء منه جمال التعبير… وحسب..
أما عنوانه فكان كلب عبد الجليل… اقتباساً من أحد كتب المطالعة بمرحلة الابتدائي..
ولا أدري أي كلب حل محله الآن؛ في زمان الميوعة هذا..
ولعله – إن وُجد – من شاكلة ذاك الذي لفت نظر صديقنا الحِمش في حي راقٍ..
فقد كان يصيح فينا بصوت لم تكتمل دائرته الكلبية بعد..
فزمجر في وجهه – صديقنا هذا – بكلامٍ ربما السكوت عنه أبلغ دلالة على معناه..
والكلب يُرمز به – منذ القدم – إلى مثل الذي عناه ابن الجهم..
فقد قال في المتوكل: أنت كالكلب في حفاظك للود… وكالتيس في قراع الخطوب..
وربما أراد محمد طه أن يشير إلى تراجع فضيلة الوفاء..
فالوفاء ما عاد يضاهيه ندرة إلا كمال الذكورة… أو عدم اكتمال الدائرة الذكورية..
مثل كلب الذوات ذاك… بالحي الراقي..
ثم قُدر لي أن أرى كلب زميلنا سعد الدين إبراهيم قبل رحيله المر عن دنيانا..
فهو من فصيلة لم أرها إلا في أحضان دلوعات السينما..
ثم حين صاح في وجهي – نابحاً – كدت أموت ضحكاً… وأنا أتذكر ذلكم الكُليب..
فهو قياساً إلى كلب سعد الدين هذا كلب آل باسكر فيل..
وبشاعريته الفلسفية الساخرة يربط صديقنا الوفي بين وفاء أيامنا هذه وكلابها..
فالكلاب إن كانت ترمز للوفاء فهي تتضاءل بتضاؤله بيننا..
فما عاد الوفاء وفاءً… ولا الحياء حياءً… ولا الصدق صدقاً… ولا الكلاب كلابا..
كل شيء – هكذا تحادثنا قبيل وفاته – تغير نحو الأسوأ..
واجتررنا جانباً من قصص الغدر…. واللؤم… والكذب… التي عايشها كلانا..
وكان صاحب العزيزة وفياً في زمن عز فيه الوفاء..
وتخنث فيه من رجاله بقدر الذين أدمنوا الغش… والمكر… وقبيح التنُّكر للناس..
وبقدر كلابه!!.
صحيفة الصيحة