(1)
سعد الدين إبرهيم، تاريخ طويل من الأغنيات الوسيمة، فهو رغم قلة أغنياته ولكن كل أغنية تمثل موقف حياتي بالغ التعقيد والجمال، فهو شاعر يكتب من واقع حياته وتفاصيلها، كل أغنياته كانت تجارب ذاتية لذلك جاءت محتشدة بالصدق الدافق، يكتب عن حكاياته الخاصة فتصبح هي حكاياتنا، لأنه يمنحك مفاتيح الدخول للاشتراك معه في ذات الإحساس، وأغنية مثل العزيزة، مازالت حتى الآن هي الرسالة الحميمة لمن نحب نكتب حروفها لتعبِّر عنا، ويظل سعد الدين إبراهيم واحداً من رواد التجديد الذين كسروا كل قواعد الشعر الغنائي الكلاسيكي، جاء بمفردته المغايرة والجديدة، في زمان كانت تسوده الحسية والمباشرة.
(2)
سعد الدين إبراهيم، تغنَّت له منى الخير، وهو لم يزل يافعاً، فقالوا وقتها عنه بأنه الطفل المعجزة، وكانت أغنية “أبوي” هي المؤشر على عبقرية الشاعر سعدالدين إبراهيم، وكانت هي المفتاح الذي فتح مغاليق الأبواب، فكتب بعد ذلك أغنيته الفارعة “العزيزة”، ثم جاءت بعد ذلك أغنيته المتجاوزة “حكاية عن حبيبتي” التي يغنيها الفنان الكبير أبوعركي البخيت، وهذه الأغنية في نظر الكثيرين من النقاد تعتبر النقلة التجديدية في الأغنية السودانية، لأنها نص شعري حفلت بالتجديد المثير والمغاير وحتى لحنها كان يوازيها من حيث التحديث والتجديد في شكل الألحان التي كانت سائدة في ذلك الزمان.
(3)
وهذه الأغنية لها قصة غريبة يحكي عنها شاعرها سعدالدين ويقول: حينما كتبت قصيدة “حكاية عن حبيبتي” كنت لحظتها أفكِّر في أن يغنيها الفنان محمد وردي أو محمد الأمين، وهي كانت القصيدة الرابعة التي أجازتها لجنة النصوص بعد “العزيزة” و”عيونك مهرجانات” و”أبوي”.
صديقي في الجامعة الشاعر الراحل محمد الحسن دكتور، أقنعني بأن أفضل من يغنيها هو أبوعركي البخيت، لأنه يقدِّم نماذج حديثة للموسيقى وضرب لي مثلاً بأغنية “بخاف” التي كانت أغنية الساحة وقتها، أخذ القصيدة مني محمد الحسن دكتور، وصديق له يدعى أبوعمار وذهبا بها لـ(أبوعركي البخيت)، وقابلاه في قهوة اسمها الإخلاص، وأذكر أن والدة أبوعركي توفيت في تلك الأيام وبعدها سافر إلى لبنان وحينما كان يجلس وحيداً هناك وحزيناً أدخل يده في جيب البدلة ووجد ورقة مكتوب عليها نص الأغنية فشرع في تلحينها, وقدَّمها بعد ذلك في التلفزيون بآلة العود وكان اللحن مدهشاً وكانت كلمات الأغنية مسار حديث الناس بسبب التعابير الشعرية الجديدة مثل:
الحمامات الحزينة
قامت أدتها برتكانة
(4)
مثَّلت الأغنية فتحاً جديداً في الأغنية السودانية وإنحاز لها الكثيرين ومنهم الصحفي أسامة الخواض، الذي كتب عنها وقال إنها أغنية المستقبل، لأن كل مفردة شعرية أو موسيقية كانت فيها قدر من (الشوف) للزمن الآتي، وأضاف سعد الدين قائلاً: الأغنية حينما عرضت عليَّ لجنة النصوص كان الجمهور سمعها وتجاوب معها، ولكن لجنة النصوص التي كانت تضم وقتها الشاعر الكبير إبراهيم العبادي وعبد الباسط سبدرات ومحمد يوسف موسى ومبارك المغربي رفضوا بعض التعابير مثل (أدتها برتكانة) وكان رأي العبادي أن هذا الكلام ليس منطقياً باعتبار أن منقار الحمامة صغير لا يحتمل وزن البرتقالة، وسبدرات اعترض على مقطع :
دي الأصيلة الزي الشعاع
تدخل رواكينا وأوضنا
وبعد جدل طويل مع اللجنة أقنعتني اللجنة بتغيير كلمة (برتكانة) وأكتب بدلاً عنها كلمة (حنانا)، ذلك الموقف كان يمثل عداءً سافراً لكل الشعراء الشباب الذين يكتبون (الشعر التخيلي) الذي لا ينتمي للمنطق العادي، وذلك هو حال الشعر يقلب موازين المنطق ليسود منطقه الخاص الذي لا تحكمه أي أسس أو قواعد، وحينما يتم الحكم على الشعر بمقايسس الواقع يصبح بلا بصيرة أو أجنحة، وميزة الشعر أن يحلِّق في أعلى الفضاءات بلا أجنحة.
وكما قال سعد الدين: إن العلاقة الحميمة انتهت وتلاشت ملامحها مع الأيام، ولكن ظلت الأغنية تؤرخ لذلك العشق، ظلت باقية في وجدان الناس لا يطالها النسيان، لأنها أغنية خاطبت الوجدان ولامست شغافه، لذلظ ظلت باقية وستظل بذات العطر والتألق والتأنق، لأنها ليست مجرَّد أغنية والسلام، ولكنها منحوتة في ناصية كل شارع وكل زاويا وكل قلب.
صحيفة الصيحة