منذ نشوب أزمة الشراكة بين المكونين العسكري والمدني في السودان واستفحالها بعد انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهات في 25 أكتوبر(تشرين الأول) الماضي، ظل التوافق الوطني هو الضالة المنشودة والمفتاح السحري المفقود الضائع ما بين تعدد المشارب وتباين التوجهات.
ساحة سياسية تعج بما يزيد عن مئة حزب مسجل رسمياً لدي مجلس شؤون الأحزاب، يتزاحم معها عدد آخر مهول من التجمعات والمنظمات والتنظيمات والأحزاب (غير مسجلة)، فكيف يؤثر ذلك على المشهد السياسي الغارق أصلاً في الارتباك وما انعكاساته على نوعية الحلول الوفاقية المطروحة للخروج من نفق الأزمة السودانية عبر الحوار المباشر الذي تقوده الآلية الثلاثية الذي انطلقت أولى جلساته يوم الأربعاء 8 يونيو (جزيران) الجاري؟
تعقيد أكثر
في هذا السياق، اعتبر أستاذ التحليل السياسي بالجامعات السودانية، عبدالرحمن أبو خريس، أن “كثرة الأحزاب على النحو الموجود في السودان الآن تعتبر أحد الإشكالات الرئيسة التي تسهم في تعقيد المشهد السياسي أكثر مما هو عليه أصلاً، إضافة إلى أنه يصعِّب من عملية إدارة الأزمة ويطيل أمد الوصول إلى رؤية موحدة تنطوي على قيمة وفاقيه عالية وحلول سياسية فعالة، باعتبار أن الأزمة نفسها ناتجة عن حدة التشظي والتفتت الذي هو السبب الأساس في المباعدة بين المشكلة وأفق الحلول، فهذه الكثرة المخلة تربك توصيف معالجة القضايا الوطنية”.
يصف أبو خريس هذا العدد من الأحزاب بـ”دليل مرض أكثر منه دليل عافية سياسية، بل يُعبِر في حد ذاته عن نوع وشكل الأزمة التي يعيشها السودان، فالبلاد ليست في حاجة إلى كل هذا الكم المهول من الأحزاب والتنظيمات، ربما يكفي وجود حزبين أو ثلاثة على الأكثر، تلملم تفرق كل هذه الكيانات الصغيرة وفق رؤى وبرامج وطنية محددة، مثل ما هو الحال في العديد الدول الكبرى”.
ويشير إلى أن “تنوع المشارب والإدراكات تجاه القضية الواحدة، يصعِّب من لملمة أطرافها بما يؤثر في نهاية الأمر على كيفية التوصل إلى تفاهمات مشتركة، مثل ما يحدث الآن مع الممثل الأممي فولكر بيرتس (يونتامس) والآلية الثلاثية الغارقين في هذا الخضم الكبير من التباينات والتشتت، حتى باتت قضية مع من يجلس معضلة في حد ذاتها، فهناك المؤيدون والمحتجون والرافضون والمطالبون بطرده والمتوجسون، ما جعل إدارة الأزمة غاية التعقيد والصعوبة”.
مراجعة ضرورية
ويوضح “الأحزاب في كل دول العالم ينظم شروط قيامها ونشاطها قانون خاص، وكلما كانت تلك الشروط محكمة ودقيقة وشفافة كان العدد موضوعياً أما في حالة تساهل القانون فسيفتح الباب لكل أصحاب الطموحات الصغيرة لتسجيل حزب، لذلك لا بد من مراجعة شروط التسجيل التي أفضت إلى كل هذا العدد من الأحزاب في المرحلة المقبلة، بغرض ضبط الاضطراب الراهن”.
ويتابع أبو خريس “أن الأفضل للمصلحة العامة ومستقبل البلاد السياسي قيام تحالفات كبيرة على أساس برنامج الوطنية في اتجاه توحيد الرؤى في ما يختص بإدارة الفترة الانتقالية ومواجهة الانتخابات العامة المنتظرة ككتل فاعلة ذات ثقل جماهيري يؤهلها لخوض التجربة”.
على صعيد متصل كشف المستشار القانوني السابق لمجلس شؤون الأحزاب، عبد الرحمن حسين الدقيل، أن هناك 105 أحزاب مسجلة لدى المجلس قابلة للزيادة بحكم استمرار عملية التسجيل وفق قانون تنظيم الأحزاب السياسية لسنة 2007 ساري المفعول حتى الآن”، مشيراً إلى أنه وعلى الرغم من حل المجلس من قبل الحكومة الانتقالية السابقة، إلا أن صلاحياته آلت إلى الأمين العام المكلف والإدارة القانونية، بتوجيه من وزير مجلس الوزراء السابق.
تساهل القانون
أقر الدقيل، بأن تساهل القانون في اشتراطات التسجيل أفضى إلى هذا العدد الكبير من الأحزاب المسجلة، إذ لا يشترط القانون عند تقديم طلب لتسجيل أي حزب سوى قائمة من المؤسسين تضم 500 شخص يمثلون ثلاث ولايات على الأقل مع شرط تمثيل للمرأة، بالإضافة إلى إيداع 3 نسخ من كل من النظام الأساسي وشعار الحزب المقترحين، مشفوعة بإقرار يتضمن الالتزام بعدم استخدام أي وسائل أخرى لتحقيق أهدافه بخلاف ما نص عليه القانون في إشارة إلى الوسائل السلمية، فضلاً عن سداد الرسوم المقررة البالغة 10 آلاف جنيه سوداني ما يعادل (17.5 دولار أميركي).
وأوضح المستشار السابق، أن مجلس الأحزاب بعد اطمئنانه على استيفاء المعايير القانونية والموافقة، يشترط على الحزب عقد مؤتمره العام لانتخاب قيادته وإجازة نظامه الأساسي على ألا يقل نصاب المؤتمر عن 500 شخص هم جميع المؤسسين، وذلك لضمان الممارسة الديمقراطية داخل الحزب نفسه، معرباً عن أسفه لعدم تمكن 90 بالمئة من الأحزاب المسجلة من عقد مؤتمراتها العامة ما يخالف المادة 14 من قانون تنظيم الأحزاب.
اقرأ المزيد
“الحرية والتغيير” والجيش السوداني يجتمعان بوساطة سعودية أميركية
“الحوار السوداني” ينطلق وسط غياب قوى معارضة
هل ثمة انفراج سياسي في السودان؟
نيران كثيفة ومقتل محتج في الخرطوم تزامنا مع زيارة خبير أممي
نقاط ضعف
لمعاجلة نقاط الضعف في القانون وبخاصة شروط التسجيل، دفع مجلس الأحزاب منذ فترة طويلة بمقترحات للتعديل أودعها منضدة رئيس مجلس السيادة ورئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك بيد أنها لم تر النور حتى اليوم، تضمنت وفق الدقيل، رفع عدد المؤسسين إلى 2000 شخص يمثلون نصف ولايات السودان على الأقل، مع التشدد بشأن المؤتمرات التأسيسية بمنح المجلس سلطة تجميد نشاط الحزب مدة عام كامل حال فشل الحزب في عقد مؤتمره خلال فترة أقصاها 5 سنوات، وللمجلس رفع دعوى إلى المحكمة الدستورية بحل الحزب وإنهاء وجوده بعد انقضاء الأجل القانوني المحدد من دون أن يوفق الحزب أوضاعه.
وللحد من ظاهرة القيادات شبه الدائمة أو التاريخية للأحزاب وإفساح المجال للتداول الداخلي لقيادة الحزب، نحت التعديلات المقترحة باتجاه تقييد عدد دورات رئاسة الحزب بحيث لا تزيد عن دورتين متتاليتين، كما شملت وفق الدقيل، إيجاد حصانة لقيادات الأحزاب بعدما كانت مقصورة على دور الأحزاب ضد عمليات التفتيش، إلا بعد إذن رئيس مجلس الأحزاب من دون توفيرها للقيادات الحزبية.
وكشف أن التعديلات المقترحة تطالب كذلك بتحديد قاض مختص أشبه بقاضي الطعون الإدارية، لمعالجة ثغرة عدم وجود آلية لتنفيذ قرارات المجلس وتسبب في عدم تنفيذ العديد من القرارات التي أصدرها في فترات سابقة.
وبشأن الأحزاب غير المسجلة التي تمارس نشاطها السياسي حالياً، أوضح أن المجلس لا يمتلك صلاحية إيقافها على الرغم من أن نشاطها بهذه الكيفية يعتبر مخالفاً للقانون، إلا في حالة وصول شكوى للمجلس من أية جهة رسمية كانت أو غيرها، باعتباره المرجعية القانونية للجهة التي تملك حق إيقاف نشاط الأحزاب غير المسجلة.
لا للأحزاب
على صعيد متصل، يعتقد رئيس منبر الحوار بين قادة القوى السياسية (2003 – 2005)، عصام صديق، أن من الصعب جداً التوصل إلى توافق مع كل هذا الكم من الأحزاب بما ينطوي عليه من تباعد في المواقف وتباين كبير في الرؤى والأفكار، ما يعني إطالة أمد الأزمة وتعقيد أكثر للمشهد السياسي وصعوبة أكبر إن لم تكن استحالة في الوصول إلى توافق كامل بينها في وقت قريب.
ينادي صديق، بفكرة جديدة أقرب إلى صيغة الديمقراطية الشعبية المباشرة أطلق عليها اسم (ديمقراطية بلا أحزاب) لأن الحزبية أصلاً تنصب مساعيها في الوصول إلى السلطة لا أكثر، معتبراً أن السودان بلد غير قابل للتحزب كونه يعج بالتباينات الأثنية والعرقية والدينية والثقافية ويكفيه أن ينجح في إدارة هذا التنوع بدلاً من الذهاب باتجاه التفتت إلى كيانات صغيرة تباعد أكثر بين المكونات الوطنية القومية.
ويدافع رئيس منبر الحوار عن فكرة “ديمقراطية بلا أحزاب، بوصفها نموذجاً جديداً لسلطة الشعب” مطالباً بـ “ضرورة تبصير وتوعية السودانيين بعيوب الحزبية والتحزب التي قسمت الأرض إلى دويلات آخرها بلادنا ما تسبب في تدهور الصحة والبيئة والسلم”.
شروط التوافق
من جانبه قطع القيادي في قوى “الحرية والتغيير” حيدر الصافي، أن “لا حل للأزمة السودانية إلا عبر الوصول إلى توافق وطني حقيقي مبني على الاعتراف بحق الآخر، وأن يتوقف كل من يدعي لنفسه حق توزيع صكوك الوطنية لأن الوطن للجميع وإن تنوعت الرؤى والمشارب”.
وكان تطبيق قانون تنظيم الأحزاب السياسية، بدأ تحت مسمى قانون التوالي السياسي في 1999، ووجد في بدايته رفضاً ومناهضة شديدة من القوى المعارضة، ووصفته وقتها بالشمولي المتعسف، مستنكرة شروطه وواصفة بأنها من صنع الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) آنذاك للسيطرة على ممارسة نشاطها السياسي.
واشترط القانون على الأحزاب التسجيل لدى مسجل الأحزاب قبل ممارسة أي نشاط سياسي بالبلاد، وأن تكون عضويتها مفتوحة لكل السودانيين، وأن يكون للحزب برنامج لا يتعارض مع الدستور الانتقالي للعام 2005، وشدد قانون التوالي السياسي القديم على أن تكون مصادر التمويل شفافة ومعلنة، والنظام السياسي مجاز من المؤسسين مع الالتزام بالشورى والديمقراطية ونبذ العنف، لكن المعارضة وقتها اعتبرته نهجاً إقصائياً لا علاقة له بالحريات يسعى من خلاله الحزب الحاكم لتهيئة الساحة السياسية لنشاطه المنفرد، غير أنه في 2017 تم تعديل القانون وتغيير اسمه من قانون التوالي السياسي إلى قانون تنظيم الأحزاب السياسية الساري حتى اليوم.
البيان