منى أبوزيد يكتب : في المُفارقة والدَلالة..!

“الأحمق – دون قَصد – قد يكون أكثر قسوةً من الحاقد بِقَصد”.. ألدوس هكسلي..!

التقدُّم في العُمر تجربة رائعة – للرجل والمرأة على حدٍّ سواء – إذا أحسن الإنسان استثمار عُمره في ما يُلهم روحه ويُغذِّي عقله، ويُرضي ربَّه ويًنفع الناس. ولكل مرحلة من العمر جمالها الخاص ومواقفها المُضيئة التي تنير دروب السالكين، ولولا تفاوت الأعمار واختلاف الأجيال لكانت الحياة مُمِلَّة، ولكانت أيامها مُتشابهةً على نحوٍ لا يُطاق..!

أما محاولة إخفاء عدد سنوات العمر فهي – فضلاً عن ما تنطوي عليه من سذاجة وقلة وعي – تحرم المرء من الصعود بثبات على مدارج الحكمة التي هي ضالة المؤمن، والتي يصعب الوصول إليها قبل الوقوف بثبات على أعتاب منتصف العمر، مع كامل الاحتفاء ببدء ظهور خصلات الشعر الأبيض..!

لكن مُشكلة التقدُّم في العمر هي عقد المُقارنات المُجحفة بين حال من يتقدم به العمر عندما كان في مثل حال من يصغره سناً، وهذه إشكالية جيلية أفردتُ لها عدداً لا بأس به من المقالات التي تُدافع عن حق الأصغر سناً في أن يعيش واقعه – الأكاديمي والثقافي والسياسي والاجتماعي – على النحو الذي يتناسب وحداثة عهده بالحِكمة التي لا تتوافر إلا بعد تراكم المواقف والتجارب المُفضية – بدورها – إلى اكتمال النضج..!

لكن – ولكن كما تعلم تثبت لما بعدها حكماً مُخالفاً لما قبلها – كل هذه القناعات المُضمَّنة في السطور أعلاه لم تمنعني من عقد بعض المُقارنات بين جيل طالبات جامعات اليوم وجيلنا نحن. ربما لأن ما دفعني إلى عقد المقارنات ليس الاستنكار المعهود لبعض المظاهر السلوكية التي تتفاوت بتفاوت الأجيال. بل الشعور التقزز – أي والله التقزز عديل – من كارثة سلوكية تأنف عن ارتكابها أي شخصية سوية..!

من منا لم يتأثّر لخبر وفاة طالبة جامعة الأحفاد التي سقطت قبل أيام من الطابق الخامس بمبنى الجامعة؟. من منا لم يغمض عينيه وهو يحاول أن يطرد من عقله صورة جثتها الغضة وهي مضجرة بدمائها في ساحة الجامعة؟. من منا لم يفكر بالأسباب والدوافع والظروف، قبل أن يقطع الإشفاق – على حال والديها وأسرتها وصديقاتها – حبل أفكاره، ثم يتمتم بالدعاء لها بالرحمة ولذويها بالصبر وجبر الكسر؟. من منا لم يهتز وجدانه لمثل هذا المصاب الجلل؟. لا أحد، فالأسوياء – كل الأسوياء – لا بد أنهم قد فعلوا، وأكثر..!

لكن – وآهٍ من لكن هذه – هل تصدق أن تقوم ابنتك أو شقيقتك أو قريبتك ..إلخ.. بفتح كاميرا هاتفها النقال لتصوير جثة زميلتها تلك وهي مضرجة بدمائها لحظة سقوطها وصعود روحها إلى بارئها؟. دعك من علاقة القرابة، هل تصدق أن تقوم فتاة أو سيدة سودانية بمثل هذا السلوك المريض؟. دعك من علاقة المواطَنة، هل تصدق أن يقوم أي إنسان سوي نفسياً بمثل هذا الفعل “اللا إنساني” في مُواجهة رهبة الموت وقدسية جثمان الميت؟. الحقيقة أنّ – بعضهن – أو أن إحداهن على الأقل قد فَعلَتْ..!

هل يُعقل أن يُسيطر الهوَس – بتصوير الأحداث وتوثيق اللحظات ونشر الصور والمقاطع – على عقول بعض الناس إلى هذا الحد الذي يُميت القلوب ويُعمي البصائر؟. وماذا ينتظر هذا المُجتمع من أمثال هؤلاء، إن كان هذا هو سلوكهم في مثل هذه السن؟. أعتقد أن الإجابة على السؤال أعلاه تقع – أول ما تقع – على كُليَّة علم النفس بجامعة الأحفاد، ربما كان عليها أن تعكف على بحثٍ علمي لتحليل وتشخيص وجود مثل هذا السلوك المَرَضي، عند بعض فئات هذا المُجتمع المسكون بأدواء هذا الوطن الحزين. اللَّهم لُطفَك..!

صحيفة الصيحة

Exit mobile version