ما لن يدركه عقل الانقلابيين عن جيل الكتلة التاريخية (شباب لجان المقاومة)، إلا تحت وقع الضربات التحويلية القاسية لعناده الذي يجعلهم مضطرين إلى التعامل معه بشق الأنفس، هو أن هذا الجيل المصمم على القطيعة مع انقلابات العسكر، مرة وإلى الأبد، يتصف بأربع صفات أساسية، من لم يفهمها لن يفهم أبداً عمق وتجذر تقاليد الحراك الملحمي العظيم لثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018.
ثورة المعلوماتية
فمن ناحية، ليس لأحد أن يجادل في أن هذا الجيل (الذي تتراوح أعماره بين 18 – 30 سنة) هو جيل سوداني فتح عينه على الفجيعة بخراب الدولة والوطن على يد نظام “الإخوان المسلمين” لـ 30 عاماً، وهي فجيعة أورثته جرحاً غائراً منذ الولادة، الأمر الذي يعني أنه أكثر جيل تحمّل عبء أن يكون محبطاً وبلا أفق لأعوام طويلة، ومن ثم لن يكون هناك في الدنيا من هو قادر على إقناعه بتسويق وإعادة إنتاج ما هو مجرّب، كما يحاول الانقلابيون منذ انقلابهم المشؤوم في 25 أكتوبر (تشرين الأول).
ومن ناحية ثانية، هذا جيل فتح عينه أمام العالم في ظل ثورة المعلوماتية والاتصال، ما أتاح له إدراكاً واعياً لكيفية بناء الأوطان وفق النماذج الناجحة في تجارب الدول الديمقراطية التي يراها بأمّ عينيه في عالم تلاشت بينه الحدود، ومن ثم لم تعُد هناك أي حجة تهزّ قناعته المطلقة بأن التجارب الفاشلة، كالتي عاش في ظلها منذ الولادة، لا بد من القضاء عليها مهما كلفت من تضحيات، ولسبب بسيط: هو أنه جيل أدرك انسداد أفق الخراب في ظل نظام “الإخوان المسلمين” بحيث لم يكُن لديه ما يخسره خلال 30 عاماً في ظل ماكينة رهيبة لفساد نظام قام على وهم القدرة على تغيير طبائع الأشياء والنفوس؟!
مقومات استراتيجية
ومن ناحية ثالثة، يدرك هذا الجيل من خلال إدراكه الواعي، أنه على الرغم من الإحباط الذي وسم حياته في ظل نظام “الإخوان المسلمين”، إلا أنه بعد ثورة 19 ديسمبر 2018 أصبح يؤمن تماماً بأن ما يتوافر عليه السودان من مقومات استراتيجية للثروات والمقدرات الطبيعية والبشرية قادر على أن يجعل منه دولة مزدهرة ومختلفة عن محيطها الإقليمي (دولة مؤهلة لأن تكون إحدى سلال غذاء العالم)، كما يدرك هذا الجيل أنه لتحقيق ذلك لا بد من حكم رشيد يفجر طاقات السودانيين لبناء دولتهم، وكم كانت فرحة هذا الجيل غامرة بتسلّم الدكتور عبدالله حمدوك، الرئيس السابق للحكومة الانتقالية، قيادة الدولة السودانية نحو تحقيق ذلك الحلم المغدور.
ومن ناحية رابعة، هذا الجيل هو امتداد لأجيال قامت بثورتين أسقطتا نظامين عسكريين في النصف الثاني من القرن الـ 20 (ثورة أكتوبر عام 1964 ثم ثورة أبريل (نيسان) عام 1985)، (قبل “الربيع العربي” بأعوام طويلة)، لكن قطعهما انقلابان أجهضا الثورتين، لهذا، فإن قدرة هذا الجيل وحرصه على استبصار طرق فاعلة لإنجاح الثورة الثالثة، من دون أن يقع في أخطاء ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985 هو ما يلهمه بالاستمرار في عزيمة وإصرار نادرين في مواجهة النظام الانقلابي حتى آخر رمق، ومن دون أي تنازلات، مجرباً في ذلك الطريق الطويل أسلوباً سلمياً في الاحتجاج الثوري كان أقوى من أي قوة غاشمة، حتى أطاح نظام عمر البشير عام 2019.
حشود كبيرة
لهذا لم يكُن مفاجئاً، أنه في وقت لم تشهد صبيحة انقلاب جعفر النميري على ثورة أكتوبر عام 1969، وانقلاب البشير عام 1989، أي مقاومة تذكر، كانت في صبيحة انقلاب 25 أكتوبر (وحتى قبل أن يعرف هذا الجيل حقيقة الانقلاب في ذلك اليوم)، خرجت حشود كبيرة إلى الشوارع فجراً احتجاجاً على اعتقال قادة الحكومة الانتقالية بقيادة حمدوك، ومن ثم ظل مئات الآلاف الذين تتدفق بهم التظاهرات في شوارع الخرطوم وبقية المدن السودانية حتى اليوم، هم العلامة الأبرز على إصرار هذا الجيل على خيار الثورة السلمية حتى إسقاط انقلاب 25 أكتوبر الماضي
هل يعود حمدوك إلى المشهد السياسي في السودان؟
هذه السمات الأربع، تفسّر لنا استعصاء هذا الجيل على أن يستكين أو يخضع لأي انقلاب عسكري، وظل على عناده، حتى اضطر الفريق عبد الفتاح البرهان قائد الانقلاب، الأحد الماضي 29 مايو (أيار) 2022 إلى رفع حال الطوارئ في كل البلاد بعد استمرارها أكثر من ستة أشهر، من دون أن يعبأ بها أحد، ومن دون أن يستطيع البرهان وقف التظاهرات التي ظلت مستمرة، هي الأخرى، بجداول معلومة للمطالبة بالحكم المدني، كما تم كذلك الإفراج عن معظم معتقلي لجان المقاومة والمعتقلين السياسيين، استشعاراً من الانقلابيين بقرب موعد التحذير النهائي للمجتمع الدولي، الذي سيحرم السودان من أي تعاون معه في ظل الانقلابيين بحلول 15 يونيو (حزيران) الحالي
رهان الانقلابيين
كان رهان الانقلابيين أن سيناريو الانقلاب على الثورة والمرحلة الانتقالية سيمرّ بسلام، قياساً على سيناريوهات أخرى في المنطقة، وأن حدة التظاهرات ستهدأ بمرور الوقت، لكن تقديرهم كان خاطئاً، واستمرت التظاهرات كما لو أنها لن تنقطع أبداً، الأمر الذي أوقع العسكر في حيرة، في حين أصبح ضغط الوقت سيفاً عليهم، خوفاً من التعرض للقطيعة من المجتمع الدولي، وهي قطيعة يعرفون جيداً ماذا ستعني لمصيرهم!
لقد كان واضحاً أن التغيير الكبير الذي حدث لجيل الشباب خلال ثورة 19 ديسمبر 2018 هو تغيير نوعي وجذري، بدليل الخروج المستمر في مليونيات التظاهر منذ ما قبل الانقلاب، وما بعده، وحتى اليوم، إلى جانب الانتظام المدني والتأطير القاعدي في جسم لجان المقاومة ذات القيادة الأفقية، كما نجح هذا الجيل في تطوير وخلق آليات عدة في تدابير عمل ثوري ظل ناجحاً وأبقى جذوة المقاومة للانقلاب متقدة بطريقة كشفت أنه كلما طال الوقت، كلما زادت التظاهرات في وتيرة متسارعة وكثيفة.
“كتلة تاريخية”
هذا يعني أن ثمة ملامح حقيقية لبروز وشيك لـ”كتلة تاريخية” تقتضيها لحظة مصير وطني أصبح على مفترق طريق، وأصبح من الواضح فيه أن الأطر السياسية التقليدية للأحزاب (بعد تجربة قوى الحرية والتغيير ذات السنوات الثلاث) لا تقوى على فك ارتباط سقفها الحزبي عن السقف الوطني، في وقت أصبح المكون العسكري السياسوي سلطة عارية تستثمر في الفشل السياسي، ما يعني ضرورة التفكير في توحيد جسم سياسي حي وجديد للقوى الثورية تكون نواته الصلبة هي لجان المقاومة.
إن مفهوم الكتلة التاريخية (الذي تعود جذوره إلى المفكر الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي) الذي أراد به معنى جديداً يشتق بموجبه المثقفون المستقلون انحيازاً حراً للطبقات الثورية الممثلة بحراك لجان المقاومة من أجل خلق تدابير هيمنة جديدة تعيد تشكيل الفضاء العام وفق تصوراتها وأفكارها للضغط به كهيمنة مضادة لهيمنة السلطة المركزية في الخرطوم، ذلك هو المفهوم الذي ينبغي أن يفكر فيه المثقفون السودانيون المستقلون، لأن هذه الكتلة الثورية التي تتشكل وتبرز بوضوح في مواجهة مركز السلطة الانقلابي بجسارة يومية، لا تعوزها اليوم القدرة على التعبئة والحشد والتنظيم، ولا يتعذر عليها التأطير الذي يقتضيه حراك المرحلة من أجل إسقاط الانقلاب، حتى وصل الأمر بهذا الجيل الثوري للجان المقاومة إلى صياغة ميثاق سُمّي بميثاق “سلطة الشعب”، توافق عليه كثير من لجان المقاومة في الخرطوم تقريباً، وتم عرضه على لجان الأقاليم والقوى السياسية، كما تم إعلان الميثاق في بلورة واضحة تعكس استحقاقاً جديداً لقوى الثورة، يؤهلها لأن تصبح كتلة تاريخية لها القدرة على أن تكون ضميراً عاماً للشعب وأن يكون المثقفون المستقلون، وهم كثر، بمثابة خزان للتفكير النقدي يعمل باستمرار على رسم السياسات المرحلية والاستراتيجية لقوى الثورة وينتج خططاً للعمل، تتجاوز فخاخ الأيديولوجيا، في وقت ترهن حراكها بانتظام يكشف عن قواعد لعب جديدة تتحكم فيها الكتلة.
تحديات
ولعل من أهم تحديات الزخم الذي يطلقه حراك لجان المقاومة في حيوية الجسد الثوري والعمل التغييري ذي النفس الطويل، هو أن يُجَنِّبَ المثقفون المستقلون عبر حجاج نقدي مستحق، مآلات سقوط الكتلة التاريخية العظيمة في فخ الشعارات الأيديولوجية التي تزدهر في بعض الأحزاب الصغيرة، كالحزب الشيوعي، لأن فخاخ الأيديولوجيا هي القاتل الخفي لأي عمل وطني في مرحلة نمو كالمرحلة التي يمر بها السودان.
لقد تعلّم هذا الجيل من معرفته الدقيقة بالفساد الذي خرّب به نظام البشير حياة الناس وسممها لـ 30 عاماً، ألا يثق بالمكون العسكري في المجلس السيادي الذي انقلب مرتين على المرحلة الانتقالية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وهو موقف ثوري من لجان المقاومة، يعكس حقيقة واضحة هي أن “أي إعادة إنتاج لما يشبه اتفاق 17 أغسطس (آب) 2019 بين الذين انقلبوا على المرحلة الانتقالية هم ذاتهم”، وبين القوى المدنية لا يعكس إلا تجريب المجرّب الذي لا طائل منه، بل هو ضرر كبير بمكتسبات الثورة.
واليوم، في وقت يستبق العسكر الانقلابيون موعد القطيعة من المجتمع الدولي بحلول 15 يونيو الحالي، بحثاً عن شركاء لهم لإقامة سلطة هزيلة تحت بنادقهم، تتحداهم لجان المقاومة وكتلتها التاريخية وتقف موقفاً صحيحاً من التاريخ برفضها للعسكر الانقلابيين، في وقت ترسل اللجان ذاتها، رسائل تحذيرية إلى القوى السياسية (كقوى الحرية والتغيير) بموقفها الصارم الذي سيحمي البلاد من شرور مقبلة.
إن التسييس الذي تعبّر عنه لجان المقاومة اليوم، هو شكل من أشكال العمل الوطني في اللحظة الحرجة، وهو تسييس يعكس الاكتراث لمعنى الوطن من أبواب العمل السياسي الجمعي، ولأن من طبيعة جماعات الشعب أن يكون اشتغالها في العمل الثوري عبر التحشيد وتنظيم الحراك الثوري، وصولاً إلى الكتلة الحرجة التي تؤدي إلى سقوط النظام، ومن ثم تتفرغ تلك الجماعات إلى شؤونها، تاركة معالجات السياسة للأحزاب. فإن واقع اليوم الذي تفرضه حيثيات ثورة سودانية فريدة يقتضي أنه ما دامت لجان المقاومة التي تبلور نضالها على مدى ثلاث سنوات في قيادة عمل ثوري وتبني مواقف سياسية بعد تأطير أجسامها الأفقية وتقديم رؤيتها السياسية عبر ميثاق “سلطة الشعب”، فإن واجب الأحزاب السودانية في هذه اللحظة الحرجة التي يعيشها الوطن أن تكون جزءاً من تيار الكتلة التاريخية وضمن جبهة جمهورية تضطلع بتقديم موقف واحد ومتماسك، يقضي بخروج المكون العسكري الانقلابي الحاكم الآن بسلطة القهر من المشهد، مع وضع بدائل من الجيش السوداني في المناصب الفنية والسيادية التي تضمن حيادية ذلك الجيش، في وقت يتم تكوين الحكومة الجديدة من كفاءات وطنية مستقلة بناء على تطوير محكم لميثاق دستوري جديد.
ستشهد الأيام والأسابيع المقبلة صيفاً ساخناً من التظاهرات المليونية الكبرى نتيجة لرفع حال الطوارئ، الأمر الذي سيكون بمثابة تحدٍّ قياسي لجدّية العسكر في تغيير الوضع الآيل إلى الانهيار من عدمه.
إن التفكير الجاد والتحرك من مفكري الأحزاب السودانية والمفكرين السياسيين المستقلين وقوى الثورة الحية من أجل وضع تصور لمشروع وطني يقوم على “ميثاق الشعب” للتسريع بكيفية تأطير الكتلة التاريخية العريضة في إطار “جبهة جمهورية” موحدة، هو واجب الوقت لإنقاذ الوطن من الدخول في نقطة الفوضى واللاعودة.
محمد جميل احمد
إندبندنت عربية