“تركت لك الكلام على عيوني لكن أظنك ما فهمت”.. محمود درويش..!
(1)
ثم يشاء الله أن تُفيق من ذلك الوهم الذي مفاده أن بعض الكوارث تحدث للآخرين فقط، بعد أن تُدرك طبعاً أنك لم تكن سوى أحد أولئك الآخرين الذي يعتقد معظمهم – بدورهم – أنّ ذات الكوارث تحدث لك أنت ولغيرك “من بقية الآخرين” فقط. إنّها قصة العَشم الإنساني المُفرط في مواجهة بعض المخاوف الغَائمة بفعل سُحب الغيب، أو بعض الشرور العَائمة في مياه الاحتمال. هي قاعدة واقعيةٌ إذن وجديرةٌ بالاتّعاظ، لأنّها تشبهك وتشبهني وتشبه آخرين كُثراً ليسوا مُحصَّنين وليسوا خارقين. قاعدة أبطالها ذات الآخرين الذين يشاركونك بعض عيوبك وانطفاءاتك وهزائمك النكراء في معارك ثقتك ببقائك جافاً ونظيفاً على ضفاف بعض التجارب الآسنة..!
(2)
أن تَحكُم دولةً متراميةَ الأطراف أو أن تكون لك القَوامة على أسرةٍ أفرادُها بِضْعةُ أشخاص، كلاهما حالان تشتركان في أوجهٍ عديدةٍ للشبه، أولها الاستعداد لتحمُّل المسؤولية وأولاها توافر الأهلية للقيام بأعباء تلك المسؤولية. لكن مفهوم الرُّشد “الذي يُلَخِّصه الشرع في الأهلية لاكتساب الحُقُوق والمقدرة على تحمُّل الواجبات” يُؤطِّره ذات المُجتمع الذي يحتكم إلى الشرع في مُعظم قضاياه بإطارٍ عُرفيٍ بليد، مفاده تقديم الرجل في الحصول على بعض الحقوق من جهة، وتأخيره في بعض الأحكام التي تستوجب العقاب من جهةٍ أخرى. وإخلاص العقل الجمعي في تبرئة الرجل واجتهاده الشديد في تجريم المرأة، بينما الشرع نفسه لا يفعل، فالخطأ هو الخطأ، والجنحة هي الجنحة، والجريمة هي الجريمة، والرذيلة هي الرذيلة، بحسب شرع الله الذي خلق الذكر والأنثى وساوى بينهما في المسؤولية الأخلاقية والعقوبة الجنائية، والجزاء في الآخرة. دعك من الضرر الواقع على المرأة جرّاء هذا النّوع من التمييز على أساس النوع وتأمل في خُطورته على الرجل نفسه، تأمل في كم التعاسة ومقدار الخراب الذي يُحيق بحياة زوجٍ لا يمارس قوامته على زوجته وفقاً للشرع بل وفقاً للعرف الذي تربى عليه. العرف الذي تُعاقب بموجبه أخته على بعض ما يفعله دون أدنى عقاب. ولذلك فهو يتوقع من زوجته أن تتجاوز عن أخطائه ونزواته كما كان يفعل والداه. والنتيجة بيوت هَشَّة وأبواب مُغلقة على علاقات مُحتَقِنة وأمهات وآباء تُعساء يتَملَّقون المُجتمع بالمظاهر، ويَتَّقُون شرور أحكامه بالإصرار على تَفوُّق الأبناء. ومجتمع انتقائي في دولة مُفكَّكة يتعاقَب عليها حُكَّام مُدَّعون، وسياسيون أدعياء، وحكومات فاشلة..!
(3)
مُشكلة معظم المستهلكين مع أشهر بسكويت شاي في السودان ليست في الجودة لأن جودته عالية، وليست في المذاق لأن مذاقه رائع، بل تكمن المشكلة في اختلاف درجة الهشاشة أو الصلابة من عُبوَّةٍ إلى أخرى. حتى وإن جرَّبتَ شراءه بالجملة ستجد دوماً أن الكرتون الواحد يحتوي على مغلفات متفاوتة. عُشَّاق الشاي بالبسكويت يفهمون جيداً ما أعنيه. تغميس البسكويت في الشاي عادة سودانية أصيلة تتطلب احترافيةً في تحريك اليد وفي ضبط التوقيت معاً، وذلك بناءً على علمٍ مُسبق بدرجة الصلابة المذكورة آنفاً. وهي على كل حال إحدى إشكالات الحياة، أن تعتاد على حال ثم تبني أفعالك وردوها عليها قبل أن تتغيّر تلك الحال، فتحتاج بعض الوقت قبل أن تنجح في إعادة ضبط ما تتوقعه بناءً على تحديث ما قد بلغك من العلم. لكن اللا منتمين – وهم بالمناسبة قلة قليلة – لا يفعلون، لا يتشَبّثون دوماً بتوقعاتهم ولا يُسَلِّمون دوماً بتمام مبلغهم من أي علم، لذلك تجدهم يعيشون حالة من الحياد الإيجابي بشأن معضلة البسكويت. ربما لأنهم قد فهموا الحياة أكثر مما يجب، لذا فهم ينظرون إلى مُعظم أحداثها الكبيرة كمباريات الشطرنج التي تنتهي بالملك والجندي – بعد انتهاء اللعبة – في صندوقٍ واحد..!
صحيفة الصيحة