أبرز العناوينرأي ومقالات

فولكر: سيناريوهات طرده المأمول

(2-2)
بعد ان استعرضنا في المقال الاول قصة الفشل الذريع الذي حاق بفولكر طوال العامين الماضيين، نتحدث هنا عن سيناريوهات طرده المأمول. وبدءا لابد لنا من ان ننوه الى اننا نستخدم كلمة “طرد” في هذا المقال بمعناها المتداول شعبيا والذي هو عدم التجديد للبعثة الاممية في 3 يونيو المقبل. فهل يجيز القانون الدولي طرد فولكر وبعثته؟ وهل يستحسَن طرد فولكر في واقعنا السياسي؟ وماهي تكلفته الدبلوماسية؟ نخصص هذا المقال للاجابة على الاسئلة اعلاه.
اثناء مساعي رئيس الوزراء المعزول عبدالله حمدوك لاستقدام البعثة الاممية دار جدل قانوني زعم فيه المتحمسون حينها لحمدوك ولكل ما يصدر عنه ان البعثة ستُستقدم تحت الفصل السادس من ميثاق الامم المتحدة وليس السابع ومن ثم فانه ليس فيها ما ينتقص سيادة السودان. وقلنا حينها ان انتقاص السيادة يجيئ من تلقاء خطاب حمدوك نفسه وليس من لدن الفصل السابع. فخطاب حمدوك يجيز للامم المتحدة ان تتعاطى في مسألة من “صميم الاختصاص الداخلي للدول”، مما منعت المادة 2(7) من الميثاق التدخل فيه الا بموجب قرارات تتخذ تحت الفصل السابع. فاذا ما تبرع السودان بدعوة الامم المتحدة لادارة شأن داخلي فان الامم المتحدة لن تحتاج لاصدار قرار تحت الفصل السابع لالزام السودان قسرا بما قبل به طوعا. وهكذا فان خطاب حمدوك هو الذي تسبب في انتقاص سيادة السودان دون ان توجف الامم المتحدة على ذلك خيل او ركاب. ولهذا لم يتمكن السودان من الانفراد بادارة هذه الفترة الانتقالية بعد ان كان سيد نفسه اثناء الفترتين الانتقاليتين السابقتين (اكتوبر 1964 و ابريل 1985). فاذا ما اراد السودان اليوم الانعتاق من هذه الوصاية واسترداد سيادته الكاملة على شأنه الداخلي فان عليه ان يسعى لانهاء بعثة فولكر. وان كان ذلك جائز قانونا كما نوضح ادناه، الا انه ليس بالامر السهل. اذ يحتاج الى ان ينهض له الشعب كله بهمة عالية تماما مثلما هو الحال في كل مساعي الانعتاق من مختلف اشكال الاستعمار. ويبدأ هذا السعي بالبحث عن الثغرات القانونية التي لابد من وجودها في ترتيب انشاء بعثة يونيتامس.
اولى هذه الثغرات هي ان القرار2524 المنشئ ليونيتامس لم يتضمن نصا يقول باستمرار البعثة طوال الفترة الانتقالية. وسبب هذه الثغرة وغيرها من الثغرات التي نذكرها ادناه هو تغير الظروف. ذلك ان من كتبوا القرار المذكور كانوا يفترضون استمرار حمدوك وحكومته في السلطة حتى نهاية الفترة الانتقالية، وربما لما بعد الفترة الانتقالية. لذا لم يأخذوا بالتوصية المشتركة لرئيس مفوضية الاتحاد الافريقي والامين العام للأمم المتحدة التي أكدت على انه ينبغي ان يتطابق أمد البعثة الجديدة مع مدة الفترة الانتقالية. وبسبب عدم تصور الغرب ذهاب حكومة حمدوك جاءت الثغرة الثانية في القرار والتي هي النص الصريح في المادة الأولى منه على ان مدة البعثة الاولية 12 شهرا يحتاج تجديدها لقرار جديد من مجلس الامن. وما دامت البعثة عرضة للتجديد سنويا، فان قرار التجديد لها لا يكون كله في يد الغرب. فاذا ما طلبت حكومة السودان عدم التجديد للبعثة تفقد دولا كثيرة الرغبة في التصويت ايجابا لبعثة سياسية تراجعت عن دعمها الحكومة التي طلبتها، ومن ثم تمتنع عن التصويت. ويهدد ذلك توفر العدد المطلوب لصدور القرار الجديد (تسعة اصوات). بل قد يبرز احتمال استخدام الفيتو في ظل الاجواء الدولية الحالية التي تسعى فيها روسيا للتعكير على الغرب وارباك خططه كلما استطاعت الى ذلك سبيلا. والثغرة الثالثة في القرار هي تأكيده ان حكومة الســـــودان “هي المســؤولة في المقام الأول عن التصدي للعوامل المسـببة لعدم الاسـتقرار … وعن التحاور مع الجهات الأخر صاحبة المصلحة، بما يشــمل المجتمع المدني والنسـاء والشـباب والمشـردين داخليا واللاجئين وأفراد المجتمعات المهمشـة، من أجل توفير حلول دائمة لمشـاكل السـودان الراهنة وطويلة الأجل”. فبالرغم من ان امر الانتقال لم يعد ضمن الاختصاص الحصري للسودان الا ان هذه الفقرة تثبت للسودان دورٌ فيه مع الآخرين. ومع ان هذه الفقرة تجيئ اخذا بتقليد الامم المتحدة في جعل المسئولية الاولى عن الاستقرار في أي بلد لحكومة ذلك البلد، حتى في القرارات التي تصدر تحت الفصل السابع، الا انه ما كان لهذه الفقرة ان تصاغ بهذا الوضوح لولا انه لم يدر بخلد احد ان حكومة حمدوك يمكن ان تغادر قبل نهاية الفترة الانتقالية. تتيح هذه الثغرات مجتمعة لحكومة السودان ان تعرب عن عدم رضاها عن بعثة فولكر وعدم رغبتها في التجديد لها بعد الثالث من يونيو المقبل. فهل اعراب الحكومة عن عدم رضاها عن بعثة فولكر وعدم رغبتها في التجديد لها مما يعتد به في القانون الدولي وممارسة الامم المتحدة؟ يقودنا ذلك للحديث عن مبدأ الرضا او الموافقة consent الذي يعد احد اهم مبادئ عمل البعثات السياسية الخاصة للامم المتحدة، بل حتى بعثات حفظ السلام.
عُرف هذا المبدأ بمبدأ كابستون Capstone Doctrine. وفحوى مبدأ كابستون ان للرضا جانبين لابد ان يتوفرا معا. وهما قبول الدولة بالبعثة الاممية من جهة، وقبول الاطراف بالعملية السياسية التي تتولى البعثة رعايتها من الجهة الاخرى. ويؤكد هذا المبدأ انه بدون توفر جانبي الرضا هذين تصبح البعثة الاممية طرفا في الصراع وقد تجر الامم المتحدة الى اتخاذ اجراءات تنفيذ قسرية لا جدوى منها ولا تزيدها الا بعدا عن مهمة حفظ السلام او المهمة السياسية التي ندبت نفسها لتحقيقها. وهكذا يتضح لنا انه، وفقا لهذا المبدأ، يحق لكل من الحكومة السودانية واطراف العملية السياسية ان يخاطبوا الامين العام للامم المتحدة، مستغلين فرصة التجديد السنوي للبعثة، معبرين عن انهم لم يعودوا موافقين على اليونيتامس، بل انهم يخشون من ان يؤدي استمرارها الى تعقيد الاوضاع بالسودان. فللحكومة ان تنقل للامين العام من منطلق مسئوليتها الاصلية في المحافظة على الاستقرار بالبلاد (التي ثبتها لها القرار 2524) ومن واقع حوارها مع الجهات ذات المصلحة، انها لم تعد راضية عن اداء البعثة وترغب في ان يُنهى تفويضها ولا يجدد. ويمكن للحكومة ان تشير في سياق ذلك للفشل الذريع لمهمة البعثة على مدى العامين المنصرمين وعجز رئيسها عن أداء اي من المهام الاربعة الواردة في تفويض البعثة وانحصار وساطته عمليا في اطراف محددة لا تمثل غالبية الشعب السوداني وقواه الحية. كما يمكن ان يشار الى انه بسبب ان فولكر اختار للعمل معه القوى السياسية التي لا ترغب مطلقا في اجراء الانتخابات، بسبب ضآلة حجم قواعدها، فإن بعثته لا تعير امر الانتخابات أدنى اهتمام. فهي لم تدعو لقيام الانتخابات او اجراء الاحصاء السكاني ولم تقدم أي دعم تقني في هذا الخصوص عملا بما يمليه عليها تفويضها. هذا بالنسبة للحكومة. اما اطراف العملية السياسية فيمكنهم ان يخاطبوا الامين العام للامم المتحدة منوهين الى مثالب البعثة كل من ناحيته. فالقوى السياسية والنقابية والمجتمعية والاهلية التي لم تدعى اصلا لحوار فولكر، او هي فيه من الزاهدين، ينبغي ان توضح للامين العام أنه لم يعد هناك من سبيل لاطلاق حوار جدي بين السودانيين كافة، على النحو الذي يبشر به تنامي المبادرات الوطنية وتوحدها، الا بعد ذهاب فولكر. ذلك ان فولكر ينحاز الى طرف دون آخر، وأنه يدني الى مجلسه اقواما ويقصي عنه آخرين. كما يحق للحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية جوبا ان تقول للامين العام أن البعثة قد فشلت في متابعة تنفيذ الاتفاقية او تهيئة بيئة آمنة لذلك. اما الجهات المهتمة بحماية المدنيين في دارفور مثل حاكم دارفور وغيره من كبار السياسيين فلهم ان يخاطبوا الامين العام لافتين النظر الى فشل البعثة في مهمتها المتعلقة بمنع نشوب النزاعات والتخفيف من حدتها وتحقيق المصالحة المجتمعية والوطنية وجمع الاسلحة الصغيرة، وغير ذلك مما جعل القرار 2524 الاختصاص به للبعثة. كذلك تخاطب الجهات المعنية بالمساعدات الانسانية الامين العام وتوضح عدم قيام البعثة بأي دور في تنسيق التعاون الفعال بين وكالات الامم المتحدة وصناديقها وبرامجها او تعزيز التعاون مع المانحين كما كان مطلوبا في القرار المذكور.
اذا تبين لنا ان المطالبة بانهاء عمل البعثة وعدم التجديد لها واردة قانونا، بل هي حق للحكومة واطراف العملية السلمية لها ممارسته عند حلول موعد التجديد السنوي، فهل ذلك هو الافضل للسودان سياسةً؟ ونجيب على هذا السؤال بالايجاب دون تردد. فكما اسلفنا القول في المقال السابق ان بعثة فولكر هي حصان طروادة الذي ينفذ الغرب من خلاله للسودان. فهدفها هو اعلاء شأن العلمانيين وضمان وضع البلاد في يد اليسار والليبراليين الجدد. وهي التي ترمي لاشاعة الاباحية تحت ستار الحرية فتسعى لتحقيق قبول المجتمع لنموذج جديد لعلاقة الرجل بالمرأة واعترافه بالمثلية الجنسية ورفع القيود عن شرب الخمرعلانية وغير ذلك مما لايرضاه اواسط السودانيين ولا يعتبرونه متساوقا مع اخلاقهم او نموذجا صالحا لتنشئة ابنائهم. ذلك ان البعثة ومن تمثل مصالحهم يرون انه ما دام النمط الاخلاقي المحافظ السائد اليوم في السودان لا يزال حيا في النفوس ومرعيا بالقانون فانه لا امل لربائب الغرب في صياغة مستقبل هذا البلد او توجيهه الوجهة التي يريدون. وهي البعثة التي تعمل لارجاع مجموعة الاحزاب الاربعة لتعيق اجراء الانتخابات وتطيل امد هذا الانتقال لتجد الوقت الكافي لاعادة صياغة الشخصية السودانية على هذا النسق المأمول. عليه فانه لا امل في انهاء هذا الانتقال النكد وتحقيق استقرار سياسي واصلاح شامل لحال البلاد الا بذهاب هذه البعثة ومغادرتها الى غير رجعة. اضافة الى ذلك لو ان فولكر كان قد نجح في تحقيق تقدم نحو الحكم الديمقراطي فصادفت الخطة التي طرحها قبولا واسعا، او لو انه حقق السلام المستدام كما طلب منه القرار، او جمع السودانيين على كلمة سواء او وثيقة دستورية واحدة، او حشد دعما مقدرا للعملية الانتخابية، او قطع شوطا في التحضير للاحصاء السكاني … لو ان فولكر فعل ذلك او بعضا منه، ربما برز منا من يقول اننا نخسر الكثير بذهابه. ولو ان فولكر كان قد ساعد في حماية المدنيين في دارفور باقامة سلسلة من المصالحات لخشينا ضياع ذلك بمغادرته. ولو كان فولكر قد نجح في اقناع العالم رغم انتكاسة مسيرة الفترة الانتقالية انه لابد للسودان من ان يظفر بحد ادنى من المساعدة التنموية لمنع تدهوره امنيا، او لو انه كان قد نجح في تنسيق المساعدة الانسانية فاستجلب للسودان ما يقيم اود جائعيه، لكان لنا ما نخشى عليه بذهاب فولكر. غير انه ما دام ذلك كله لم يحدث فانه ليس لمغادرة هذه البعثة المشئومة كلفة سياسية تذكر.
لكن هل لذلك كلفته الدبلوماسية؟ أي هل سيقاطع المجتمع الدولي السودان ويضرب عليه حصارا ان هو اعترض على التجديد لهذه البعثة؟ اللهم لا. فما جُعل موعد التجديد الا لتقييم اداء البعثة والتأكد من ضمان توفر الرضا المطلوب لاداء مهمتها، فلا حرج اذن في ان تصدع الحكومة واطراف العملية السياسية بكلمة الحق وتعلن ان السودان لم يعد بحاجة لهذه البعثة الفاشلة التي لا تزيد المشهد الا تعقيدا وقتامة. وفي ظل الاوضاع الدولية الراهنة يمكن ان تسقط بعثة فولكر دون بواكي، كما تسقط ورقة الخريف.

كتب الدكتور الدرديري محمد احمد

الخرطوم، 23 مايو 2022