باتفاق خبراء اقتصاديين وناشطين في مجال العقارات والإنشاءات، فإنَّ المواطن السوداني سواءً كان مُقيمًا بالداخل أو مغتربًا بالخارج، يقضي نحو 75% من عمره لبناء منزله، وعندما يستقر تحت ظِل (حصاد سنينه) لا يمكُث إلا قليلًا ومن ثم يفارق الحياة برُمّتها.. وتبقى الحكومة هي (المتهم الأول) في ذلك، بدليل أنَّ مديرًا سابقًا بصندوق الإسكان قال إنَّ السياسات المالية في البلاد تعتمد على الإيرادات الضريبية والجمركية، مؤكدًا أنَّ هذه الرسوم تُشكِّل على مواد البناء حوالي 40% من التكلفة الكُليَّة لمُجمل عملية التشييد.
مبانٍ تحت التشييد
(المُقاوِل) الريَّح بابكر موسى قال لـ(السوداني) إنَّ الأغلبية العظمى من المواطنين يفشلون في إكمال منازلهم حتى بعد بداية التشييد وذلك لأنَّ ما يملكونه من أموال لا يتناسب مع ما يُخطِّطون لبنائه مُطلقًا ولذا نجد آلاف المنازل تبقى تحت التشييد لفترات قد تصل أكثر من عشر سنوات.. وأضاف أن العالم من حولنا حلقَّ بعيدًا في مجال البناء والإنشاءات لأنه انتهج مبدأ (البدائل) باعتماده على وسائل بناء تُقلِّل التكلفة وتجعل من عملية إكمال بناء المنازل، مسألة مقدورٌ عليها وفي متناول الجميع..
تفكير خارج الصندوق
ويقول المهندس شهاب الدين فضل لـ(السوداني): إنَّ العقلية المُسيطرة علينا كـ(شعب وحكومة) هي التقليدية والمُحاكاة وعدم الابتكار، ولذا ظللنا في (وَحَل) الأفكار القديمة في كل شيء؛ لا سيما في شأن البناء والتشييد، في حين أن دول كثيرة جدًا في محيطنا الإفريقي أقلَّ من السودان في الموارد والإمكانات والتخطيط، حققت اختراقًا كبيرًا في مجال التشييد والبناء لأنها اعتمدت على التفكير (خارج الصندوق)، فبرعوا في إنشاء المدن السكنية بأيسر الطُرق وأقل الإمكانات، أما نحن في السودان فرغم توفُّر الفرص الكفيلة بتنفيذ مثل تلك المشاريع لكن غياب الإرادة القوية والإدارة الحاسمة والدعم الحقيقي من قبل الدولة، إلى جانب توفير التمويل طويل الأجل، حتى ينعم المواطن السوداني بأقساط دورية تكون في متناول دخله المحدود، وشدَّد على أن ذلك لا يحدث إلا بإعادة ترتيب وتنظيم قطاع السكن وفق أُسس جديدة، ثم اتخاذ السياسات والإجراءات المحفزة، لتنفيذ مثل هذه الخطط.
كلُّنا في الهمِّ شرق
من ناحيته قال عائدٌ لتوِّه من الاغتراب بالمملكة العربية السعودية، حيدر حسين إنَّ مشكلة المأوى وارتفاع قيمة العقارات، أصبحت واحدة من المُعضلات التي تواجه أغلبية السودانيين المغتربين منهم والموجودين بالوطن، خاصة مع استمرار ارتفاع تكاليف المعيشة. ورغم المساحات الشاسعة التي يتميز بها السودان، إلا أن السكن يمثل أكبر هاجس للمواطن، وكما هو معلومٌ بالضرورة فقد شهد قطاع العقارات خلال الفترات الماضية، قفزة خيالية في أسعار البيع والإيجارات، بلغت حد تقييم سعر البيع للمتر بمدينة الخرطوم بالدولار، ما جعل العقارات بالعاصمة الخرطوم تكون هي الأغلى على المستوى الإقليمي وربما العالمي حتى.
تجربة الإسكان الشعبي
ويرى المهندس أمين أحمد الحاج، أن حل مشكلة المأوى في السودان تتطلّب قيام مبادرة من جانب الحكومة عبر تنفيذ مشروع السكن التعاوني – على سبيل المثال-، إلا أن هذه الخطوة مرهونة بضرورة إعادة ترتيب وتنظيم جديدين للعمل في قطاع السكن، وكذلك لا بُدَّ من تعريف المواطن بكيفية التعامل مع هذا النظام ، وقال في حديثه لـ(السوداني) إن المواطن السوداني لديه سابق تجربة، مع أنظمة السكن الشعبي والاقتصادي والاستثماري، ولكن استمرار ارتفاع تكاليف البناء والتمويل المصرفي ، تظهرها بأنها غير مجدية، ولا يكون في استطاعة المواطن أو الموظف محدود الدخل، تحمل دفع أقساط عالية من دخله الشخصي، موضحًا بأن تجارب السكن الشعبي والاقتصادي والاستثماري، كان انتشارها أكثر بولاية الخرطوم مقارنة بالولايات الأخرى، حيث استفادت الخرطوم من فرصة التمويل الذاتي.. واستدرك الحاج بقوله: إنَّ تنفيذ السكن التعاوني يحتاج لتوفير موارد وأموال مقدرة من قبل الحكومة، لتجاوز نظام التمويل المصرفي، وبالتالي يكون في استطاعة المواطن الدخول في السكن التعاوني ودفع استحقاقاته.
الحكومة تُضاعِف المعاناة
المهندس خالد عبد الماجد، المدير السابق لصندوق الإسكان بولاية الخرطوم، قال إنَّ تنفيذ مشروع السكن التعاوني أو المجمعات السكنية يحتاج أولًا لدعم مادي هائل من قبل الحكومة، بما يسهم في توفير سكن للمواطن البسيط، لا سيما وأن قيام المجمعات السكنية يقلل التكاليف الإدارية، كما أنها تخلق تنافساً بين المقاولين والشركات المنفذة، ما ينعكس ايجاباً على الجودة وسرعة الأداء. وأكد عبد الماجد، أن السياسات المالية في البلاد تعتمد على الإيرادات الضريبية والجمركية، وهذه الرسوم تشكل على مواد البناء حوالي 40% من التكلفة الكلية، كما نجد أن تنفيذ هذه المشاريع في مواقع مميزة تتوفر بها الخدمات الأساسية، بما يحفز على قيامها ويقلل من التكاليف، واعتبر أن السودان يحتاج لسنوات لتطبيق هذه المفاهيم واقعيًا، كذلك لا بُد من جدية الدولة لتنفيذ مثل هذه المشاريع، لأنها تعد المحك الرئيسي لإنجاحها واستمرارها، مشيرًا إلى أن الفترات السابقة شهدت مطالبات كثيرة، لمراعاة مسألة الضرائب والجمارك على قطاع البناء، ولكن لم تجد الإرادة القوية لتنفيذ ذلك، إضافة إلى العديد من الرؤى والأفكار لتنفيذ مشاريع سكنية لمحدودي الدخل، إلا أنها واجهت الكثير من التحديات.
عبء مُضاعف!!
وفي المقابل يعتقد الاقتصادي د. عبدالعظيم الفحل، أن المواطن السوداني ظل يقضي نحو 75% من عمره لبناء منزله، على مستوى الأشخاص المحليين والمغتربين، وعندما يستقر تحت ظِل منزله لا يمكث به قليلًا ومن ثم يفارق الحياة برُمّتها، وارجع سبب ذلك لمغالاة السودانيين في البناء والكل يودُّ السكن بنمطٍ معين واتجهوا إلى البناء الخرساني، بينما نجد أغلب الدول لديها بدائل كثيرة للسكن ما يجعله بسيطًا ورخيصًا جدًا من حيث التكلفة المالية، ولم يجتهدوا كثيرًا في بناء العمارات، وقال المهل في حديثه لـ(السوداني) إن واقع بلادنا يعكس حقيقة، أن الدولة تسعى للتكسب من وراء هذا القطاع، بدلًا من مساعدة مواطنيها وتسهيل الإجراءات لهم، حيث نجد أن المتعاملين في قطاع البناء والتشييد مواجهون بدفع العديد من الرسوم والضرائب والجمارك والخدمات دون مرود حقيقي لهذه الأموال، وشدد المهل، على أن قطاع السكن صار في السودان لا يُطاق للشخص العادي، ما يحتم ضرورة التوجه نحو السكن التعاوني، من خلال تعاون أفراد مع بعضهم البعض، أو مجموعات العمل المتقاربة، بحيث تتفق على إنشاء سكن تعاوني، كذلك مجموعات الموظفين في الشركات والمؤسسات والمصانع ويمكنها، شراء قطعة أرض ومن ثم تشييدها بحسب رغبتهم، بما يوفر سكنًا لكل فرد منهم بأسعار معقولة، مؤكدًا بأن السكن التعاوني يحقق فوائد للفرد والمجتمع معًا، فضلًا عن إتاحة الفرصة للدولة لتقديم الخدمات بصورة أجود، وإقامة مشاريع إنتاجية صغيرة ، تلبي احتياجات المواطنين اليومية بكل يسر، وأشار المهل، إلى أن الاستثمار في السكن العقاري مفيد جدًا للاقتصاد، لأنه يحرك القطاعات التشغيلية الأخرى بتوفير فرص عمل وزيادة الدخول لهؤلاء الأفراد، بما ينعكس إيجابًا على حركة الأسواق والاقتصاد الكلي للدولة، إضافة إلى أن المفهوم التعاوني عمومًا كان محاربًا من قبل النظام السابق، متطلعًا بأن يجد الاهتمام خلال الفترة المقبلة.
نزوح كثيف
وأشار الاقتصادي د. حسين القوني، إلى أن تفاقم أزمة السكن بالسودان ما زالت مستمرة، لجملة أسباب اقتصادية واجتماعية يعيشها المجتمع السوداني منذ عهود، وقال إن النزوح على المدن من قبل المواطنين مازال متواصلًا بكثافة ما أدى لارتفاع معدلات الطلب على السكن مع زيادة أسعار الأراضي والإيجارات، مشيرًا إلى أن ثمة شركات وأصحاب أموال استفادوا من هذه الأوضاع وحصلوا على تصاديق حيازة أراضٍ واسعة، تم استثمارها لأغراض السكن وبيعها للمحتاجين، وفرضوا مبالغ عالية مقابل هذه الأراضي، إلى جانب ارتفاع أسعار مواد البناء واحتكارها لبعض الجهات، أيضًا شمل الغلاء الفاحش كل مستلزمات القطاع من الطوب والأسمنت والحديد وغيرها من احتياجات التشييد، مشيرًا إلى أن كل هذه العوامل مجتمعة أدَّت، لحدوث ارتفاع مفاجئ في قيمة الأراضي والإيجارات، خلال السنوات الماضية.
الخرطوم: ياسر الكُردي
صحيفة السوداني