من صاقر..
وما معنى صاقر؟..
سوف اجتهد في الإجابة عن السؤال هذا؛ ولن أكون مثل صديقنا حمودة..
وحمودة هذا من منطقة الفكي هاشم..
ومن منطلق أنه من أبناء المنطقة الريفية هذه سألناه عن معنى كلمة خنتيلة..
وكنا نستمع حينها إلى أغنية (وصف الخنتيلة)..
فأجاب عن سؤالنا بسؤال استنكاري آخر (بالله ما بتعرفوا الخنتيلة؟)..
فقلنا له: لا ؛ لا نعرف…فما معناها؟..
فتنحنح – وتزحزح – ثم أتى بإجابة من شاكلة (قلت محمد بن يزيد منهم)..
قال إنها من (الخنتلة)..
فسألناه مرة أخرى: طيب وما معنى الخنتلة نفسها؟… فلم يحر جوابا..
ولكنا عرفنا بعد ذلك أنها تعني مشية تيهٍ ودلال..
ومفردة صاقر هذه – حسب الفهم الشعبي لها – تعني الذي يألف برتابة..
يألف وجهاً… أو عملاً… أو شيئا..
وربما هي تحريفٌ من كلمة صدأ… ونطلق عليها بعاميتنا المحلية صَقَر..
ويقولون إن فلاناً صاقر زوجته ثلاثين عاماً..
بمعنى أنه تحمّل رتابة العيش معها حتى صَدِئ… حتى أصابه الصدأ..
أو حتى أصابه الصَقَر..
وكذلك المرأة التي تصبر على العيش – الرتيب – مع زوجها سنين عددا..
فالرتابة – مع تطاول الأمد – هي التي تجلب الصقر..
والماء الجاري لا يصير آسناً بعكس الراكد؛ في محاولة أخرى للتشبيه..
والسودانيون حيواتهم كلها صقر… ومصاقرة..
صقر سياسي… صقر حياتي… صقر زواجي… وصقر جراء مصاقرة الفقر..
فمياه كل أولئك ساكنة على الدوام… وراكدة..
فوجوه الحكام لا تتغير بسهولة… وكذلك وجوه السياسيين… ووجوه الأزواج..
ثم أوجه القصور في الخدمات..
خدمات الكهرباء… خدمات المياه… خدمات المعاملات… خدمات النفايات..
كل شيء – وكل وجه – كما هو؛ لأعوامٍ… وأعوام..
ووجه البشير – على سبيل المثال – ظللنا نصاقره ثلاثين عاماً… حتى صدئنا..
حتى صقَّرنا… ومللنا… وسئمنا..
حتى كاد يبلغ هو نفسه العمر الذي سئم فيه الشاعر الجاهلي زهير الحياة..
وذلك حين قال في معلقته الشهيرة:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمِ
ولكنه – أي البشير – لم يسأم أبداً..
لا سئم الحياة… ولا الحكم… ولا طول العمر… ولا حتى الرقص بالعصا..
وسبب عدم سأمه أن حياته متحركة… وليست ساكنة..
فهو يسافر على الدوام؛ حتى ولو إلى روسيا لمشاهدة مونديال كأس العالم..
ثم أن حياته هذه كانت تخلو من المنغصات..
لا قطوعات في الكهرباء… لا المياه… لا الخدمات… ولا مصاريف الشهر..
وقضى على ثلاثين عاماً من أعمارنا كنا فيها مصقِّرين..
كما يصقِّر من يصاقر شريك حياة لثلاثين عاماً وهو يزيده نكداً على نكد..
أو يزيد من منغصات حياته؛ في السودان..
ولكن جريزيلدا عاشت نصف قرنٍ من الزمان مع شريك حياتها دون صَقَر..
لا صقَّر هو… لا صقَّرت هي..
والسبب أن حياتهما الزوجية – الطويلة – هذه كانت ذات حراك… لا سكون..
فهو عاش للأدب… وهي عاشت به..
كان يكتب… وتعيش هي أدبه هذا… ثم تُضفي عليه ما برعت فيه من فن..
وعشقته – أول مرة – بسبب سنونه… وابتسامته..
وإلى أن مات ظلت تعشقه؛ وتراه ذا أسنانٍ جميلة… وابتسامةٍ أجمل..
وظل هو يراها (وصف الخنتيلة)..
والآن… الآن… الآن؛ استمع إلى مسؤولٍ يتحدث عن أزمة انقطاع المياه..
ويقول الكلام ذاته الذي قاله سلفه..
والذي سيقوله – حتماً – خلفه؛ والذي سيسمعه – بالتأكيد – أحفاد أحفادنا..
فالحياة في بلادنا مملة… مملة.. مملة..
ولولا إيمان بالله… وبصيص أمل… وروائع من قبيل (الخنتيلة)… لمتنا كمداً..
وصـــَقَراً!!.
صحيفة الصيحة