بنت الحكومة الإثيوبية فرضية دعم السودان لـ”جبهة تيغراي” على العلاقة المتوترة معها، وترحيب السودان باللاجئين التيغراي، وفي الاتجاه الآخر ملاحقة الجيش السوداني لعصابات “الشفتة” التابعة للقوات الفيدرالية الإثيوبية. وعليه، أصدر البرلمان الإثيوبي بياناً في مارس (آذار) 2021، صاغته لجنة مكلفة يفيد بأن “أعمال العنف بمنطقة متكل، دُعمت من قبل السودان ومصر”.
دخول الحكومة الإثيوبية في حرب قاسية مع قوات جبهة تيغراي، وتصنيفها من قِبل مجلس نواب الشعب الإثيوبي بأنها منظمة إرهابية، خولها لعكس المكاسب التي حققتها قوات جبهة تيغراي على الأرض إلى خسائر لإفقاد الجبهة الداعمين، ولجذب أطراف أخرى للنزاع إلى صفها باعتبارها المنتصرة. وهنا كانت إثيوبيا تتوقع أن ينحاز السودان إلى دعمها باعتبار أن سد النهضة سيعود بفوائد إلى السودان.
وجند رئيس الوزراء آبي أحمد قوات من إريتريا إضافة إلى قوات من منطقة الأمهرة الإثيوبية. ولإثنية التيغراي خلاف عميق مع الطرفين، فخلافها مع إريتريا يعود إلى حرب الحدود بين إثيوبيا وإريتريا عام 1998. أما خلافها مع الأمهرة فيعود إلى التنافس الإثني العميق إذ يشكل الأمهرة والتيغرانيون أكبر المجموعات الإثنية في إثيوبيا، ويتنازعون منطقة غرب تيغراي الممتدة من نهر ستيت (تيكيزي) الذي يمتد إلى أن يقترن مع نهر عطبرة في السودان. كما أن الأمهرة يقولون إن أصولهم تعود إلى السلالة السليمانية الإثيوبية، وأن لهم حق تاريخي في إثيوبيا منذ أن كانت تسمى المملكة الحبشية، إضافة إلى وجود أكسوم المسيحية في منطقتهم.
في مقابل ذلك تتحالف قوات تيغراي مع المتمردين المناهضين للحكومة الإثيوبية في منطقة أوروميا الوسطى، وعلى الرغم من أن الأرومو هم من دفعوا بآبي أحمد إلى السلطة، إلا أنهم يقولون أنه قوض نضالهم من أجل قدر أكبر من الحكم الذاتي والديمقراطية. وتعد “جبهة تحرير أرومو القومية” و”مؤتمر أورومو الفيدرالي” من بين الأحزاب المعارضة الأكثر شعبية في منطقة دير داوا، حيث أجبرتهم الحكومة على الانسحاب من المنافسة في انتخابات 2021. كما أن أمام جبهة تيغراي فرصة للتحالف مع السودان غير أن ذلك مقيد بعوامل عدة.
خلفية الاتهام
بدأ اتهام إثيوبيا السودان بالمشاركة في تدهور الأوضاع في تيغراي، عندما أطلق رئيس الوزراء السوداني السابق عبدالله حمدوك مبادرة لحل الأزمة بين الحكومة المركزية في أديس أبابا وجبهة تحرير شعب تيغراي في أغسطس (آب) العام الماضي. رفض آبي أحمد المبادرة السودانية، وعمم رفضه على أي تدخلات في الشؤون الداخلية لبلاده، مع أن السودان رحب من قبل بالمبعوث الإثيوبي الذي بعث به مع وساطة الاتحاد الأفريقي عام 2019 لحل الأزمة في السودان بين المدنيين والعسكريين. تبع هذه المبادرة ورفض إثيوبيا الوساطة السودانية، دمغ الاتهام الإثيوبي بدعم السودان لتيغراي، ثم تصاعد التراشق الإعلامي بين البلدين.
ألقت نقاط الخلاف بين إثيوبيا والسودان في ملفات سد النهضة والنزاع على الحدود السودانية الإثيوبية بظلالها على تقييم موقف السودان من الحرب التي يخوضها الجيش الفيدرالي ضد قوات “جبهة تحرير تيغراي” منذ 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020. فيما تمثل الصراعات الإثنية والعرقية المتصاعدة في أنحاء البلاد تحديات تهدّد بقاء الدولة الإثيوبية. ففي هذه الأزمة، على الرغم من تأكيد رئيس الوزراء الإثيوبي أن السد لن يضر بمصالح دولتي المصب السودان ومصر، إلا أن خطابه بمناسبة توليد الكهرباء من السد في 20 فبراير (شباط) الماضي جاء غير مطمئن، إذ ظللته خلفية اتهام الحكومة الإثيوبية للسودان ومصر بدعم جبهة تيغراي. ووصف وفد التفاوض السوداني الخاص بسد النهضة الخطوة الإثيوبية بأنها “خرق جوهري للالتزامات القانونية الدولية لإثيوبيا، ومخالفة لإعلان المبادئ بين الدول الثلاث الموقع في الخرطوم في مارس 2015”.
وفي الإطار ذاته يشهد إقليم بني شنقول الذي يقام فيه السد توترات تقودها “جبهة تحرير شعب بني شنقول”، المطالبة بانفصال الإقليم عن إثيوبيا أو عودته إلى السودان. وكما اتهمت إثيوبيا السودان بدعم جبهة تيغراي، اتهمته أيضاً بتحريض جبهة بني شنقول خصوصاً بعد إثارة الخرطوم قضية سيادتها على إقليم بني شنقول الذي انتقل إلى إثيوبيا من السودان وفق اتفاقيات 1902. ثم جاء تصعيد الخرطوم بسحب القوات الإثيوبية من بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في أبيي.
توقعات الانهيار
لا يميل السودان خلال حقب حكمه وأغلبها عسكرية إلى إقامة علاقة مع الحركات الثورية الانفصالية في القارة الأفريقية مهما كانت عدالة قضيتها، لكي لا تتأثر الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة بهذا النهج. ولكن في المقابل نجد أنه لطالما مثلت كل من إثيوبيا وإريتريا موطناً ثانياً للمعارضين السودانيين، كما لعب السودان الدور نفسه ولكن في إطار محدود أثناء بعض حقبه السياسية.
نظراً لتكثيف آبي أحمد لمركزية السلطة في يده، قد تجد المعارضة الإثنية في إثيوبيا وليس جبهة تيغراي وحدها في السودان متنفساً، ما قد يشكل ضغطاً على حكومة آبي أحمد ويزيد من الانشقاقات الداخلية، وهذا ما بدأت تستشعره حكومته وبادرت باتهام السودان به. ولكن ليس من مصلحة السودان استمرار الحرب التي ستفاقم من زعزعة استقرار إثيوبيا، فإذا تطور الصراع إلى حرب طويلة الأمد يمكن أن يؤدي إلى تدمير تيغراي بشكل أكبر وانهيار إثيوبيا، الدولة الرئيسة في القرن الأفريقي. وإن استعادت قوات تيغراي غربها من سيطرة إثنية أمهرة، فسيخلق ذلك واقعاً جديداً ربما يفضل السودان على أساسه التعامل مع الجبهة بدلاً من السلطة الفيدرالية الحالية، ولكن انهيار إثيوبيا سينقل منطقة القرن الأفريقي بما فيها السودان إلى دوامة من النزاعات لن تنتهي قريباً. كما أن استمرار الحرب يعني زيادة متواترة في عدد اللاجئين من بلد يبلغ عدد سكانه 110 ملايين نسمة وتبعات ذلك من مشاكل أمنية واقتصادية واجتماعية وديمغرافية ستقع على السودان.
توقعت إثيوبيا أن يقوم السودان بإرسال الإمدادات إلى قوات تيغراي، ما كان سيحدث توترات كبيرة بين أديس أبابا والخرطوم. وتم توجيه انتقادات تراوحت بين اتهامات بالتحيز الصارخ إلى التواصل غير الواضح والضبابية في العلاقات مع إثيوبيا.
معيقات التعاون
عوامل عدة تحد من تعاون السودان مع جبهة تيغراي، أهمها، العامل الأول، تعليق عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي، إضافة إلى القرار غير الملزم الذي اتخذه مجلس الشيوخ الأميركي بشأن إيقاع عقوبات على المجلس العسكري، إثر الإجراءات التي أطلقها رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر(تشرين الأول) العام الماضي. سيحد ذلك من دور السودان في التفاوض بشأن قضية سد النهضة، كما يحد من تعاونه مع جبهة تيغراي لأنه سيجر عليه مزيداً من المشاكل التي تتخذها إثيوبيا ذريعة في تعنتها إزاء حل قضاياها العالقة مع السودان.
والعامل الثاني، على الرغم من أن هناك فرصة استراتيجية تمكن السودان من الاستفادة من جوار إقليم تيغراي لحدوده، إلا أن المنطقة مشحونة بكثير من العوائق. إذ تُعد منطقة غرب تيغراي التي تسيطر عليها الأمهرة ذات أهمية استراتيجية للجبهة باعتبارها منفذاً برياً يقع على الحدود مع السودان، ما تسهل معه حركتها بالتوغل غرباً إلى السودان في حال ضيقت عليها القوات الإثيوبية الحصار، ولذلك فضلت عدم تحرير المنطقة بالقوة فاتجهت عكسها حتى تصرف القوات الحكومية عن تمركزها هناك.
العامل الثالث، يقف السودان وإثيوبيا أمام مواجهة قد تنقلب إلى حرب لا يستطيع أي منهما تحملها. ففي منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2020، اندلعت مواجهات عسكرية بين القوات السودانية وميليشيا “الشفتة” الإثيوبية التابعة للقوات الفيدرالية. ويقف النزاع الحدودي بين السودان وإثيوبيا حول منطقة الفشقة الكبرى والصغرى، كعائق أمام تعاون السودان مع جبهة تيغراي، خصوصاً أن إثيوبيا رفعت الملف إلى الاتحاد الأفريقي وعلى استعداد إلى تصعيده دولياً.
واتهم نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية ديميقي ميكونن، السودان بانتهاك ترسيم الحدود عندما كانت إثيوبيا منشغلة بعملياتها في الجزء الشمالي من البلاد، كما اتهم القوات السودانية بتهجير المدنيين وتدمير الممتلكات في المناطق المتنازع عليها.
أما العامل الرابع، فهو الخشية من تنشيط الهجرة عبر السودان كمعبر أو تكثيف اللجوء إليه، إذ تهدد هذه الموجات بتنشيط طريق الهجرة عبر السودان إلى مصر ثم إسرائيل فأوروبا.
إدانات دولية
على الرغم من العوامل التي تحد من دعم السودان جبهة تيغراي رغم توفر الفرص، هناك اعتبارات أخرى تشير إلى أن الاحتمال سيكون مفتوحاً إذا تغيرت بعض الظروف لصالح الجبهة وكذلك السودان. بعد شهر من إعلانها هدنة إنسانية مفتوحة في أبريل (نيسان) الماضي، وموافقة جبهة تحرير تيغراي على وقف القتال في حال وصول المساعدات، قال المتحدث باسم الشؤون الخارجية، السفير دينا مفتي، بأنه “يجب على المجتمع الدولي أن يدين بوضوح استعداد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لجولة أخرى من الحرب”. مؤكداً “إظهار بلاده التزامها غير المقيد بالسلام من خلال اتخاذ تدابير ملموسة، وينبغي على المجتمع الدولي أن يدرك ذلك”.
تزامن ذلك مع إشارة “منظمة العفو الدولية” و”منظمة هيومن رايتس ووتش” في تقرير مشترك نُشر في 6 أبريل الماضي بأن “المدنيين في تيغراي استُهدفوا في حملة تطهير عرقي لا هوادة فيها في منطقة غرب تيغراي المتنازع عليها منذ اندلاع الحرب في إثيوبيا في نوفمبر 2020”. وما أثار حفيظة السلطات الإثيوبية أن المنظمتين أجريتا، مقابلات مع أكثر من 400 شخص بينهم لاجؤون في السودان وشهود على أعمال العنف لا يزالون يقطنون في غرب تيغراي أو في أماكن أخرى من إثيوبيا. ثم جاء في تقريرهما أن “هذه الهجمات المنتشرة والممنهجة ضد السكان المدنيين في تيغراي ترقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب”.
تبني المواقف
يمكن أن يدعم السودان جبهة تحرير تيغراي وسيؤدي ذلك إلى تقوية موقفه أمام إثيوبيا واكتسابه نقاط قوة للتفاوض في كل الملفات المتنازع عليها، غير أن السودان يضع اعتباراً للعوامل المذكورة. ومثلما يمكن أن يسهم الضغط الدولي على السودان في تبنيه مواقف معتدلة ومحايدة إقليمياً، فإن الضغوط الداخلية كذلك تجعل من الصعب على كل من السودان وإثيوبيا التمادي في اتخاذ مواقف متطرفة.
من التعاون إلى العداء إلى الاتهامات ومحاولات كسب أهداف في مرمى الخصم، كلها توضح تحول العلاقات بين السودان وإثيوبيا، وإن كانت جبهة تحرير تيغراي هي الذريعة الحالية، فإن ما نما خلال العامين الماضيين من خلافات كفيل ببروز ذرائع أخرى لانحراف العلاقات السودانية الإثيوبية ليحقق كل طرف ما يراه من مكاسب سياسية، أو اقتصادية أو استراتيجية.
إندبندنت