هل يغير قرار مجلس الشيوخ الأميركي طبيعة التحول في السودان؟

رغم القرار الذي اعتمده مجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع، الأربعاء، بإدانة ما وصفه بانقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 في السودان، وتأكيده مساندة الشعب السوداني في تطلعاته الديمقراطية واعترافه بالقادة الدستوريين للحكومة الانتقالية، وكثير من الإشارات والمطالب لكافة الأطراف الأميركية والسودانية والدولية، فإنه يظل في النهاية مجرد قرار غير ملزم لإدارة الرئيس جو بايدن، والتي تختلف الآراء داخل الولايات المتحدة حول أدائها السياسي والاقتصادي بشأن تطور الأحداث في السودان ومدى تأثيرها سواءً بالسلب أو الإيجاب على مجرى التحول الديمقراطي، فهل من تغيير متوقع؟

تعزيز معنوي

لا يحمل قرار مجلس الشيوخ الأميركي بإدانة ما يصفه بانقلاب 25 أكتوبر الماضي في السودان، جديداً يُذكر عن مشروع القرار الذي أقرته لجنة العلاقات الخارجية بالمجلس في مارس (آذار) الماضي، ومع ذلك فإن تمرير القرار بالإجماع، يظهر مدى توافق الديمقراطيين والجمهوريين حول طريقة العمل التي يتصورونها لدفع السودان نحو تحقيق أهداف الثورة، ويعطي في الوقت ذاته دفعة معنوية وسياسية مهمة للجهود الدبلوماسية التي تقوم بها الخارجية الأميركية، والتي يطالبها القرار بتحديد قادة الانقلاب والمتواطئين معهم، وحث زعماء المجلس العسكري على العودة إلى نصوص الدستور الانتقالي وحكم القانون، فضلاً عن مطالبة الإدارة بالنظر فوراً في فرض عقوبات مستهدفة لم يحدد القرار طبيعتها.

ضوء أخضر

غير أن قرار مجلس الشيوخ، يعطي أيضاً الإدارة الأميركية ضوءاً أخضر لاستخدام أدوات ضغط قوية ضد قادة المجلس العسكري من خلال مطالبة وزارة الخزانة باستخدام صوت الولايات المتحدة وتصويتها في المؤسسات المالية الدولية، لتعليق جميع الإجراءات المتعلقة بالقروض غير الإنسانية أو إعفاء السودان من الديون حتى يتم استعادة النظام الدستوري الانتقالي، فضلاً عن دعوة مدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والوكالات الحكومية الفيدرالية الأخرى، لوقف جميع المساعدات الثنائية غير الإنسانية المقدمة للسودان إلى أن يتم تحقيق نفس الهدف الدستوري.

وعلاوة على ذلك، فإن القرار يكسب الإدارة الأميركية زخماً مهماً عبر دعوة الشركاء الدوليين الانضمام إلى جهود الولايات المتحدة لفرض عقوبات محددة الهدف على المجلس العسكري والمتواطئين معه، ومراقبة وتثبيط وردع أي جهد من قبل الأطراف الخارجية لدعم المجلس العسكري، إضافة إلى تعليق مشاركة السودان في كافة المنظمات الإقليمية متعددة الأطراف حتى عودة السودان إلى الحكم الدستوري.

ضغوط إضافية

وعلى الرغم من أن المجلس العسكري السوداني من المرجح بشكل كبير أن يتجاهل دعوات مجلس الشيوخ الأميركي بالإفراج الفوري عن جميع المسؤولين المدنيين وأعضاء المجتمع المدني والمحتجزين على صلة بالانقلاب، والعودة إلى الحكم الدستوري كنقطة انطلاق للمفاوضات مع المدنيين نحو حكم مدني كامل، ورفع حالة الطوارئ، بما في ذلك إعادة جميع وسائل الإعلام، وضمان احترام قوات الأمن للحق في الاحتجاج السلمي، ومحاسبة الذين استخدموا القوة المفرطة، ووقف محاولات تغيير المكون المدني لمجلس الوزراء ومجلس السيادة والهيئات الحكومية الأخرى، فإن المجلس العسكري قد يضع في اعتباره هذه الضغوط الإضافية في أي محادثات مقبلة مع الولايات المتحدة بشكل منفرد، أو مع الترويكا التي تضم أيضاً المملكة المتحدة والنرويج حول العودة إلى خريطة الطريق من أجل الانتقال الديمقراطي في السودان.

لكن قرار مجلس الشيوخ الذي ظل مطروحاً لعدة أشهر في الكابيتول هيل، لم يأت من فراغ، فقد تولدت منذ أكتوبر الماضي سلسلة من التفاعلات والمناقشات داخل النخبة الأميركية من المتخصصين، فضلاً عن جلسات الاستماع التي عقدها مجلس الشيوخ للاطلاع على الأطروحات المختلفة التي من شأنها تحقيق التحول الديمقراطي في السودان وإبعاد البلاد عن العنف السياسي والتدهور الاقتصادي، وهو نقاش شهد بعض التباينات في الرؤى حيال ما ينبغي اتخاذه من قرارات وخطوات، رغم الاتفاق على وحدة الهدف.

أخطاء الإدارة

فمن ناحية اعتبر البعض مثل ميشيل غافين الخبيرة في الشؤون الأفريقية في مجلس العلاقات الخارجية والمسؤولة السابقة في مجلس الأمن القومي الأميركي، أن طريقة التعامل الحذرة للإدارة الأميركية، أعطت الجيش السوداني الوقت والمكان للاستيلاء على السلطة في نهاية المطاف، وأن رد فعل الولايات المتحدة الفاتر على هذا الاستيلاء، أحبط العديد من النشطاء السودانيين المؤيدين للديمقراطية، بخاصة بعدما امتنعت إدارة بايدن عن استخدام كلمة “انقلاب” في بياناتها التي تدين استيلاء الجيش على السلطة، ورفضت معاقبة الفريق عبد الفتاح البرهان والقادة العسكريين الآخرين، وبدلاً من ذلك، ضغطت من أجل إطلاق سراح رئيس الوزراء عبد الله حمدوك من الإقامة الجبرية وإعادته كرئيس للوزراء، ودعت إلى العودة إلى ترتيبات تقاسم السلطة، وهي تدابير اعتبرتها الفصائل المؤيدة للديمقراطية في السودان غير كافية.

ولعدة أسابيع، علق صانعو السياسة الأميركيون آمالهم على إعادة حمدوك إلى منصبه، كما لو أن وجوده في الحكومة، يمكن أن يلبي متطلبات واشنطن بتحقيق الديمقراطية للسودان، على الرغم من أن حمدوك فقد مصداقيته إلى حد كبير، وأصبح لا حول له ولا قوة له في نظر غالبية الإصلاحيين والديمقراطيين، وحتى حينما أبرم حمدوك صفقة مع البرهان للعودة إلى منصبه في نوفمبر (تشرين الثاني)، كان من الواضح أنه لا يمكن أن يشكل ثقلاً مدنياً موازناً وفعالاً للجيش، وعندما استقال في بداية يناير (كانون الثاني)، لم يكن هذا مفاجئاً لأحد، حيث كان من الواضح بشكل مؤلم أن حريته جاءت برضا الجنرالات الذين يواصلون قتل المتظاهرين بينما يعيدون إحياء النظام القديم.

بطء الدعم المالي

وحتى قبل استيلاء الجيش على السلطة، كانت سياسة واشنطن تجاه الحكومة الانتقالية الجديدة في السودان تنفر مؤيدي الإصلاح الديمقراطي الحقيقي، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة، رفعت السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ودعمت تخفيف بعض ديون الحكومة السودانية، فإنها كانت بطيئة في تقديم الدعم المالي الذي كان من الممكن أن يجعل الإصلاحات الهيكلية التي تشتد الحاجة إليها، أقل إيلاماً للشعب السوداني، كما كان يُنظر إلى واشنطن خلال سنوات الرئيس السابق دونالد ترمب، أنها تحاول إخضاع السودان لجهود توقيع اتفاقات سلام بين إسرائيل والسودان وبعض دول الخليج، وهي سياسة تحظى بدعم شعبي مشكوك فيه في السودان.

وبدلاً من الاستفادة من الزخم في السودان من أجل الإصلاح والديمقراطية، بدت واشنطن غير ملتزمة بالبلاد خلال معظم الفترة الانتقالية، بل تجاهلت تعيين سفير أميركي في السودان حتى عام 2022، ولهذا كان استيلاء الجيش على السلطة يرجع في جزء منه إلى الحذر والإهمال الأميركي خلال الفترة الانتقالية والذي أعطى الجيش الوقت والمكان لممارسة المزيد من القوة على اعتبار أنه يمكن ببساطة الاستيلاء على كل شيء.

أنظمة أم شخصيات؟

ويشير موقع “فورين أفيرز” إلى أن جزءاً من مشكلة الإدارات الأميركية المتعاقبة، يتمثل في أنها تركز أكثر على الشخصيات الفردية بدلاً من التعامل مع الأنظمة، ومثلما ركزت على زعيم واحد خلال عهد البشير، فإن تعاملاتها لعدة أسابيع حرجة على شخص واحد فقط على اعتبار أنه لا غنى عنه وهو حمدوك، أعمى الإدارة عن واقع كان واضحاً للسودانيين في الشارع، وهو أن الجيش ببساطة لن يتسامح مع سيطرة مدنية حقيقية على أدوات السلطة.

وإذا كانت الإطاحة بالبشير بالنسبة لبعض صانعي السياسة الأميركيين، هي التغيير الذي احتاجه السودان، حتى لو ظل النظام الذي بناه قائماً في مكانه، فإن على الإدارة الأميركية أن تتخلى عن فكرة دعم التغييرات في القيادة والتي تعد أسهل بكثير من التغييرات الهيكلية الأكثر صعوبة والمطلوبة بقوة من أجل التحولات الديمقراطية في ظل تنافر الأصوات والمصالح والتطلعات.

وصفة للفشل

ومع حرص صانعي السياسة في الولايات المتحدة على القضاء على مشكلة تتعلق بأشخاص على رأس الحكم بدلاً من التركيز على بناء حل دائم، يبدو أن النظام لن يفكك نفسه أبداً، وهذا هو السبب في أن الضغط من أجل العودة إلى فكرة الحكومة الانتقالية على أساس الصيغة السابقة لتقاسم السلطة هو وصفة للفشل، إذ لا يمكن لأي فرد أو مجموعة من الأفراد المشاركين في مثل هذه العملية، استعادة ثقة الشعب السوداني أو إجبار الجيش على تبني الإصلاح فجأة، لأن دفع الناس إلى النزاهة والموضوعية ضمن مناخ فاقد للمصداقية، يؤدي إلى إضعافهم، ويترك النظام القديم دون تغيير، ويزرع السخرية بين مؤيدي الديمقراطية.

وبالنسبة لكثير من المحللين في واشنطن، فقد أدت سنوات من السعي لتغيير رأس السلطة في السودان إلى تقييد طموحات الولايات المتحدة، وبدت فكرة السودان الديمقراطي الملتزم بسيادة القانون خيالية جداً لفترة طويلة، لدرجة أنها لا تحرك أي استراتيجية أو تخطيط أميركي، وهو ما يتعارض بشكل رهيب مع التوقعات الهائلة للشعب السوداني الذي يطالب بتغيير منهجي بعد أن شهد سقوط البشير.

خطة العمل

لا تبدو مطالبات مجلس الشيوخ من الإدارة الأميركية خارج السياق المألوف، إذ تتخذ واشنطن بالفعل خطوات لحرمان الحكومة العسكرية من الإعفاء من الديون والمساعدات الاقتصادية التي تحتاجها للحفاظ على شبكات المحسوبية الخاصة بها، وصعدت مؤخراً، مشاركتها مع المؤسسات المدنية، لكن مراقبين وباحثين يعتقدون أنه يجب على الإدارة الأميركية أن تفعل المزيد لفهم التطلعات والخطوط الحمراء لهذه المؤسسات ودعم قدرتها على المشاركة في تشكيل مستقبل السودان، كما يجب على الولايات المتحدة الامتناع عن إضفاء الشرعية على الأطر الانتقالية التي تمكن الجيش من إملاء جداول زمنية، أو استخدام الفيتو أو الموافقة على التعيينات المدنية، أو تحديد من يتم تضمينه أو استبعاده من الساحة السياسية.

دبلوماسية المساعدات

في الوقت نفسه، يرى جوزيف تاكر، كبير الخبراء في معهد الولايات المتحدة للسلام، والمتخصص في منطقة القرن الأفريقي الكبرى، أنه قد يكون من المغري إعادة مخصصات المساعدة الأميركية للحكومة والتي بلغت 700 مليون دولار، عند أول إشارة أو بادرة حكومية على التحسن، أو عندما يتوقف العنف ضد المدنيين ويكون هناك تقدم ملموس لا رجعة فيه نحو حكومة مدنية، ولكن مع توخي الحذر للتأكد من أن إعادة هذه المساعدات ليست سابقة لأوانها، لأن الاضطرار إلى تعليق المساعدة مرة أخرى، أو بعد مرور فترة يتضح فيها أن الوضع لم يتغير بشكل فعال، يمكن أن يضعف مصداقية النهج الأميركي.

ويشير تاكر إلى أن انهيار المرحلة الانتقالية والنظام الدستوري، هو تحول يتطلب إعادة نظر جادة، وأن هناك حاجة إلى اهتمام وثيق بالوضع الاقتصادي وسبل العيش والأمن الغذائي على مستوى السودان، لأنه من الأفضل حل الأزمات الإنسانية من خلال الحلول التفاوضية للقضايا السياسية والصراع، ويمكن للولايات المتحدة مواءمة جهودها الدبلوماسية والسياسية بشكل أفضل مع المساعدات الإنمائية، حيث يمكن للدبلوماسية أن تقدم دعماً ملموساً للمساعدات، لا سيما لبرامج دعم المجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان والحوكمة وتخفيف حدة الصراع.

وهناك حاجة إلى استراتيجية شاملة لبرامج دعم المجتمع المدني والمساعدة في التخفيف من حدة النزاعات، من أجل استعادة ودعم وتوطيد انتقال حقيقي، حيث يمكن تصور ذلك وتنفيذه ومراقبته من خلال فريق عمل مشترك بين الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي مع قيادة رفيعة المستوى، كما يمكن ربط الجهود الدبلوماسية والسياسية ببرامج المساعدة والاستفادة من التقييمات الدورية للاقتصاد السياسي وحالات الصراع، إضافة إلى استكشاف مجالات للشراكات الدولية المعاضدة.

عقوبات محددة الهدف

ويعتبر تاكر الذي أدلى بشهادته أمام مجلس الشيوخ قبل أسابيع، أنه من الصواب للولايات المتحدة وغيرها أن تنخرط في حوار دبلوماسي مع الجهات الأمنية في السودان، لكن يجب أن يرتكز هذا الحوار على رؤية راسخة لحكومة مدنية حقيقية تنتهي بالسلام الشامل، كما يرى أنه من المفهوم أن يدعو مجلس الشيوخ إلى عقوبات محددة الهدف، لأنها أداة قوية تحول تصريحات إدانة العنف ضد المواطنين إلى أفعال، على أن يتم تطبيقها بذكاء وأن تكون جزءاً من استراتيجية واضحة ومفصلة ترتكز على الحقائق السياسية، ومع ذلك فإنه يحذر من أن العقوبات ليست بديلاً عن وجود استراتيجية، نافياً الافتراض القائل إن العقوبات قد تؤثر سلباً على آفاق الحوار كونها تظهر تشدداً في المواقف، وهو ما لا يدعمه التحليل الموضوعي.

وفي ظل الحاجة إلى نظام دستوري جديد، لن يكون هناك استقرار في السودان حتى تتشكل حكومة مدنية حقيقية ويتم تحديد دور الأمن وتنفيذه بحزم، كما يجب أن يمتد هذا الاستقرار إلى أطراف السودان مثل دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان وأقصى الشمال، وبينما يقع على عاتق السودانيين مسؤولية تحقيق أهدافهم الديمقراطية، إلا أن للولايات المتحدة والمجتمع الدولي دوراً واضحاً يلعبانه لصالح الاستقرار الإقليمي والدولي.

إندبندنت

Exit mobile version