قبل عدة سنوات، كنت عائداً بالطائرة إلى موطني السودان من مدينة ”داكار“، عاصمة دولة السنغال أقصى بقعة في غرب أفريقيا على شاطئ المحيط الأطلنطي، وكان خط السير يمر فوق الأجواء السودانية إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، قبل المواصلة إلى الخرطوم.
حلّقت الطائرة لعدة ساعات عابرة السودان بالعرض من الغرب إلى الشرق، المنظر كان مبهراً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، طوال ساعات كانت الطائرة كأنها تطير فوق بساط أخضر، لا يبدو في الأرض سوى الخضرة التي تشقها الأنهر والوديان وتلمع من أعلى كثيف مصقول يرقد على بساط أخضر.
في رحلة قبلها داخل السودان، من مطار مدينة ”دنقلا“ بشمال السودان، وكنا في طريقنا إلى مدينة وادي حلفا في أقصى الشمال، عندما أقلعت الطائرة فوجئنا بقائد الطائرة يعلن أن الرحلة ستستغرق ساعة ونصف الساعة!
المدينتان تقعان في أقصى الشمال، وليس في وسط السودان، ومع ذلك تحتاج الرحلة بينهما كل هذا الوقت! وطن بمساحة قارة كاملة.
مناسبة هذا الحديث أنني قبل عدة أيام تلقيت اتصالات من مواطني إحدى المناطق بغرب السودان يستنجدون من كارثة قادمة ربما تسيل فيها دماء بريئة بين أبناء الوطن الواحد، وتجمع بينهم وشائج الدم.
والسبب أن قبيلة في المنطقة اتصلت بالسلطات في العاصمة الخرطوم وطلبت السماح لها بالحصول على ”نظارة“ في المنطقة. و“النظارة“ هي سلطة أهلية تقليدية تعني أن القبيلة حازت الأرض التي تقطنها.
ولأن أبناء القبيلة الأخرى التي ظلت تحوز ”نظارة“ في المنطقة طوال تاريخ طويل، ترفض أن تتقاسم الأرض مع غيرها، فإن المواجهة تبدأ باللجوء للسلطة المركزية التي مهما قضت بالحكم لأحد الطرفين فإن الطرف الآخر سيكون مستعداً لإشعال حرب أهلية دامية، عادة يسقط فيها الآلاف، لأن طبيعة الصراع الأهلي المستند إلى حِميّة القبيلة تقوم على مبدأ الشجاعة والجسارة التي تعني مواجهة الرصاص بصدر مفتوح، فيسقط آلاف الضحايا في ساعات قليلة.
والصراع على ”الأرض“ ليس في دارفور وحدها، رغم أنها أكثر مناطق السودان تأثراً به ودفعت أنهاراً من الدماء طوال عقود من الزمان في الحروب القبلية، وأشهرها الصراعات التي دارت بين قبيلتي ”الرزيقات“ و“المعاليا“ في ستينيات القرن الماضي وتجددت على فترات.
ورغم الصلح الذي وقعه ممثلون عن القبيلتين بمدينة ”مروي“ قبل سنوات، ما لبث أن انهار ودارت معركة دامية قبل عدة سنوات أدت لسقوط أكثر من ألف من الطرفين خلال ساعات قليلة.
ربما لغير القرّاء السودانيين تبدو الصورة مثيرة للدهشة، فالسودان – قبل انفصال الجنوب – كان أكبر دولة مساحة على مستوى العالم العربي والقارة الأفريقية، ويفخر السودانيون دائما بعبارة (بلد المليون ميل مربع).
وعدد السكان بالنسبة للمساحة يبدو صغيراً، ومن يزور السودان من الأجانب تذهله المساحات الشاسعة التي تفوق مساحات عدة دول كبيرة، ومع ذلك خالية من السكان وربما من الزراعة أو أي نشاط اقتصادي، منذ خلقها الله، وإذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه، ربما يُنفخ في الصور فتطوى هذه الأراضي السودانية عذراء لم يمسسها إنس ولا جان.
ومع ذلك، تدور الحروب وتراق الدماء البريئة من أجل أرض هي أكثر ما يتوافر في السودان، على قول الشاعر طرفة بن العبد: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ.. والماء فوق ظهورها محمول.
ورغم أن ”الأرض“ هي من أهم الأصول الاقتصادية، إلا أنها في السودان تتجاوز البُعد الاقتصادي إلى الاجتماعي وأحياناً إلى المستوى الذي يرتبط بالشرف والجاه، أقرب إلى نظرة بعض القبائل في دولة جنوب السودان إلى البقرة، فهي ليست مجرد ثروة حيوانية بل من صميم فخر القبيلة والفرد، مهما كان عائدها المادي شحيحاً، لكن كمها العددي هو المحك، فحتى مهر العروس يُقَيّم بالأبقار.
هذه النظرة الاجتماعية لـ“الأرض“ جعلتها محوراً شيطانياً حوله تُراق قرابين الدماء على مدى عقود طويلة بلا مردود اقتصادي مميز.
وفي اتفاقية السلام الموقعة في 3 أكتوبر 2021 بمدينة ”جوبا“ عاصمة دولة جنوب السودان بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة، استغرق التفاوض شهوراً طويلة حول تقاسم الأرض بين القبائل، أو ما يسمى محلياً في السودان بـ“الحواكير“، ومفردها ”حاكورة“، وهي المساحة المخصصة من الأرض للقبيلة، وأُفرد فصل كامل في الاتفاق لمعالجة مشاكل ”الحواكير“.
قضية ”الأرض“ في السودان تحتاج إلى معالجة بمبادئ ”الاقتصاد الاجتماعي Social Economy وهي فكرة ليست جديدة، بل سبقت تجربتها في ”مشروع الجزيرة“ بوسط السودان.
في بدايات القرن العشرين وبعد استعادة بريطانيا للسودان، ظهرت فكرة تشييد مشروع زراعي كبير بين النيلين الأزرق والأبيض في المنطقة المعروفة بـ“الجزيرة“ في قلب السودان، وكانت الفكرة تقوم على تخصيص رقعة شاسعة من الأراضي للمشروع الذي يُدار مركزيا ويُروى من النيل الأزرق.
لكن الإدارة البريطانية في السودان رأت أن العلاقة بين المزارع السوداني والأرض في هذه المنطقة فيها بُعد اجتماعي عميق علاوة على البعد الاقتصادي، وأن انتزاع الأرض من المزارعين وتخصيصها للمشروع قد يضرب التماسك والاستقرار الاجتماعي للسكان.
من هنا نشأت الفكرة الحالية للمشروع التي تقوم على مبدأ الشراكة بين المزارع والدولة، المزارع بالأرض التي يملكها والدولة بالري وإدارة المشروع وتمويل العمليات الزراعية ثم تسويق محصول القطن، وهو الوضع الذي بعد ما يقرب من مئة عام لا يزال سائدا (المشروع افتتح سنة 1925م).
الفكرة ذاتها يمكن استنساخها وتطويرها في بقية مناطق السودان، خاصة الغرب والشرق، فالاقتصاد الاجتماعي يرتقي بالعائد من الأرض اقتصادياً، دون أن يخل بالرابطة الاجتماعية التاريخية مع الأرض.
وبالتحديد إذا أخذت مثالاً لذلك مناطق ”دارفور الكبرى“، فإن الفكرة تجد رواجاً كبيراً لما تتمتع به المنطقة من ثروات هائلة في الزراعة بشقيها النباتي والحيواني.
وقد يكون مناسباً التوسع في الروابط الاقتصادية المجتمعية المبنية على فكرة ”التعاونيات“، وهو نظام عريق في السودان كان له أثر كبير في سياقين، الأول توفير التمويل وآليات الإنتاج، والثاني الأرباح الكبيرة العائدة على المواطن بصورة مباشرة.
مستقبل وحدة السودان واستقراره مرهون بعلاج قضية ”الأرض“ التي تغنى بها النشيد الوطني السوداني (هذه الأرض لنا فليدم سوداننا)، رغم الاختلاف الكبير بين المعنى الذي أراده الشاعر، والمعنى الراسخ حالياً، الممهور بالدماء والأشلاء، لا الرخاء والنماء.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز
إرم نيوز