وحديث داوود بولاد مع جون قرنق حول عنصرية التنظيم والجماعة
ياسر عرمان
-1-
لهذه البلاد قضايا قديمة جديدة مترابطة ومتوازية من الاقتصاد والسياسة والثقافة وكافة مكونات المشروع الوطني الذي نريد، ولكن قضية المواطنة في صدر القضايا الحاضرة المغيبة والمسكوت عنها. وكما قال دكتور فرانسيس دينق: “إن المسكوت عنه هو الذي يفرقنا.” ودون حل قضية المواطنة بلا تمييز لن يستقر السودان، ولقد غاب جنوب السودان حينما غابت المواطنة، وحق الآخرين في أن يكونوا آخرين والقبول بالتنوع، والوحدة في التنوع هي أساس بناء الدولة الحديثة.
الانتقاص من تاريخ ومواطنة السودانيين هو الذي ينتقص من جغرافية السودان.. العنصرية قضية إنسانية شاملة ومعقدة وما زالت تحتل مكاناً لا تستحقه في أفئدة البشر وممارستهم اليومية في أرجاء الكرة الأرضية، وكان الإنسان ظلوماً جهولاً. العنصرية لا تزال تُمارس في البلدان المتطورة والمتخلفة على السواء، وما زال جورج فلويد لا يتسطيع التنفس! بل إن بعض الذين تُمارس ضدهم العنصرية يُمارسونها ضد آخرين من ملتهم وقبائلهم وشعوبهم، وبعض الذين عانوا منها ساهموا فيها أحياناً.
العنصرية ذات جوانب بنيوية ومؤسسية تحتضنها دول ومؤسسات ومشاريع وطنية قائمة على إنكار حق المواطنة دون أن تعلن عن ذلك، ولا تزال العنصرية تسير على قدمين في بلادنا السودان، ومسكوت عنها. وحسناً فعلت مكرفونات محاكمة قادة نظام (الإنقاذ) التي نطقت بالحق وأخرجت أثقاله من بين حديث شوكت وضحكة أبو بكر.
الفرق بين المجتمعات الديمقراطية وتلك التي اعتمدت النظام الشمولي إن الأنظمة الديمقراطية قد طورت حساسية مجتمعية وثقافية وقانونية وإعلامية وتحاسب على العنصرية باعتبارها جريمة بأركانها المعنوية والمادية، ومن يمارسها لا ينجو بفعلته، ووكالة سونا التي نقلت البث مباشرة لا تستطيع أن تورد خبراً عما حدث أو أن تدين الفاعل. ومؤسسات الدولة وقادتها مطالبون باتخاذ خطوات تُحاسب على هذه الجريمة أو على الأقل فضحها أمام أعين الرأي العام، أو أضعف الإيمان استنكارها.
إن بلادنا لن تسير في الاتجاه الصحيح إن لم تطور حساسية ضد العنصرية بكافة أشكالها، والذي تسرب من مكرفون المحكمة على لسان المحامي شوكت الذي سبَّ الدين في نهار رمضان ووصف إنساناً ومواطناً محترماً وقيادياً في أجهزة الدولة، ويقدم للمفارقة برنامجاً يسمى (حوار البناء الوطني) (أي بناء وأي وطن!)، ولنا أن نتخيل إذا حدث ما حدث للقمان في أميركا وعلى الهواء مباشرة، وفي سوح القضاء، ومن محامين في أمريكا من البيض يتحدثون عن رجل أسود ويصفونه بأوصاف لا يتسطيع المرء أن يكررها في هذه المقالة. لنا أن نتخيل ماذا يكون رد القضاء والمحامين في الولايات المتحدة الأميركية، بل كيف سيكون رد البيت الأبيض.
في رابعة نهار ثورة ديسمبر المجيدة التي لم تسلم من الحديث أيضاً فماذا وكيف يكون الرد من الديسمبريات والديسمبريين ومن المجتمع ومن الدولة، وقد تأسفت وشعرت بالحزن لضحكة أبو بكر عبد الرازق ومشاركته لأنني أعرفه، ورغم الاختلاف ظل بيننا الاحترام، وأدعوه – وهو المعروف في دوائر الرأي العام – أن يعتذر بشجاعة ويشجب ردة فعله ومشاركته وضحكته غير المناسبة على حديث عاطل عن كل المواهب، وعليه وزميله شوكت الخروج من هيئة الدفاع، وشوكت يستحق أن يُفصل من نقابة المحامين ويُمنع من ممارسة مهنة المحاماة والقانون لا سيما أن كل ذلك قد تم في داخل المحكمة وفي أروقة القانون، فأي محكمة وأي قانون يُمكن أن يقف أمامه السيد شوكت مرة أخرى؟! والذي هو نفسه يمثل الآخر عند آخرين ويأتي من مجموعات سكانية ينظر إليها البعض بدونية لاختلاف لسانها، ومع ذلك فهو ينظر بدونية إلى اختلاف اللون. إن ما حدث سدد إساءات إلى الدين الإسلامي وإلى الأديان السماوية وإلى رب السماوات والأرض، وفي شهر رمضان المبارك. وحمل إساءات عنصرية ضد البشرية والإنسانية والسودان، ثم تحدث عن لجان المقاومة بلغة (المحرش ما بكاتل) وهي إساءة بليغة إلى لجان المقاومة والثورة، ولم ينسَ المحامي أن يسىء إلى النائب العام السابق وإلى هيئة الاتهام التي تضم حصان طروادة على حد قوله.
إن ما حدث يحتاج إلى رد مجتمعي جماعي ومثقف وسياسي ضد العنصرية والعقاب الرادع على ممارستها قولاً وفعلاً، وعلى قوى الثورة أن تضع قضية العنصرية والمواطنة في أوليات أجندتها فلا مشروع جديد دون حل قضية المواطنة، وهي أحد جذور وأسباب الحروب الرئيسية، وليتحدث الشارع ضد العنصرية وليعزز قيمة المواطنة.
-2-
دمعة ووردة على قبر داوود يحي بولاد:
في عام 1990، التقى داوود يحي بولاد بالدكتور جون قرنق ديمابيور في مدينة مريدي بغرب الاستوائية، في بداية اللقاء بادره دكتور جون قرنق بالسؤال حول ماهية الأسباب التي دعت شخصاً قيادياً مثله لترك الحركة الإسلامية والانضمام للحركة الشعبية؟ ولما كانت قرية “الملم” التي ينحدر منها الأستاذ لقمان أحمد ليست ببعيدة عن مسقط رأس داوود يحي بولاد المهندس والشهيد والقيادي السابق في الحركتين الإسلامية والشعبية ولعله الوحيد، فإن ما دار بين داوود وقرنق ذو صلة وثيقة بما حدث يوم أمس الأول في المحكمة، وكلا المتهمين والمحامين يلمون بدقة بجرح داوود يحي بولاد المهندس والشهيد المرتبط بالمواطنة والأرض، وفي جامعة الخرطوم حينما كانوا طلاباً هتف بعضهم بالأمس (عائد عائد يا بولاد) حينها كان بولاد أحد قادة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم ومعتقلاً في سجون نظام مايو!.
أجاب داوود يحي بولاد رداً على سؤال جون قرنق دون تردد: “إنني قد اكتشفت أن الدم أكثر كثافة من الدين في الحركة الإسلامية.” أي أن الروابط الإثنية في داخل الجماعة أقوى من رابطة الدين، وهذه قضية تهم كافة الأحزاب والجماعات، وتهمنا معاً، وعلينا أن نواجهها معاً. والمجتمع السوداني بحاجة لمواجهة قضية العنصرية بشفافية.
أما الحركة الإسلامية إذا أرادت إصدار نسخة جديدة مواكبة للعصر فعليها أن تدرس قضية العنصرية في داخلها وترد الاعتبار لإنسانيتها، وقد سبق للراحل الدكتور الترابي أن أشار إلى ذلك في موضوع دارفور، ولكن الحركة الإسلامية في مجملها – وليس كلها- يجلس على سدة قيادتها من هم في عجلة من أمرهم لا تهمهم مراجعة أمر (الإنقاذ) من العنصرية وحروبها التي لعبت فيها العنصرية إحدى محركاتها، ولكن الجماعة ظلت في عجلة من أمرها للقفز على دست الحكم قبل مراجعة التجربة، وهنا فإن الجماعة لم تتعلم شيئاً ولم تنسَ شيئاً ولا يسمح قادتها لها بالحديث بلسان مبين وفصيح في قضايا مثل الديمقراطية والعنصرية والمواطنة، بل إن عمار السجاد قد ذهب أبعد من ذلك فيما نُقل عنه عبر الإنترنت وزادنا في الشعر بيتاً بأن سب الدين عند البعض نوع من تنفيس الغضب، وذكر أحد الظرفاء أن الجماعة قد غضبوا من بث لقمان للمظاهرات على الهواء، ولكن البزعي ووكالة سونا قد قاما ببث سب الدين والعنصرية على الهواء، وسب لجان المقاومة في بث مباشر، وحاول البعض نفي ونكران ما جرى بدلاً من اتخاذ موقف مستقيم منه.
-3-
1924 ثورة السودانوية والنهوض ضد العنصرية:
دون محاولة استخدام هذه القضية الكبيرة في تصفية حسابات صغيرة وترك القضايا الكبرى وعلى رأسها مكافحة العنصرية وبناء مجتمع لا عنصري قائم على المواطنة بلا تمييز، فإنني أتوجه بالدعوة مرة أخرى للشباب وللجادين من بنات وأبناء شعبنا ومجتمعنا لا نفرق بين أحد منهم، وعلى وجه الخصوص من الديسمبريات والديمسبريين، لنحتفي بمرور قرن من الزمان على ثورة 1924، وهي ثورة سودانوية كسرت حاجز الصوت والصورة ضد العنصرية واختارت علي عبد اللطيف بكل ما يمثله زعيماً للأمة السودانية، ولا تزال صورة قادتها البديعة والتنوع السوداني الذي مثله قادتها وشهداؤها الذين تتوزع دماؤهم شمالاً وجنوباً هي أكبر صيحة في وادي النهوض ضد العنصرية (إنما أنا سوداني ولا يهمني إلى أي قبيلة أنتمي)، فالسودانوية وحدها هي التي توحدنا، ولنحتفي بمرور قرن على ثورة 1924، ونحو مجتمع لا عنصري يمجد السودانوية والإنسانية
صحيفة اليوم التالي