أو هما ربيعان..
ربيعان بشريان في أجواء سياستنا..
أما أجواء طقسنا فتخلو من فصل الربيع..
الأول هو ربيع الحزب الاتحادي الراحل… أمين الربيع..
والثاني ربيع حزب المؤتمر الوطني… ربيع عبد العاطي؛ والذي صار صيفاً..
وأعني ربيع الوطني… حين كان جوه بديعاً..
أو – على الأقل – كان بديعاً بالنسبة له… ولمنسوبيه..
فتنعموا بجوه المنعش عقوداً قبل أن يتبدل – على حين ثورة – إلى صيفٍ قائظ..
أما ربيعٌ البَشري فهو يتكلم في كل الفصول..
الأول اشتهر بجزالة المفردة… وجمال العبارة… وقوة البيان..
والثاني اشتهر بالدفاع (المستميت) عن نظامه… حتى (يُميت) المستمع غيظاً..
فهو يدافع عنه (عمال على بطال)… بأسلوب (إن طار عنزة)..
ورغم ذلك تربطني به علائق جميلة… فهو – بعيداً عن اللجاجة – إنسان جميل..
ومبتدأ هذه العلاقة حين سافرنا – معاً – إلى لندن..
ومنتهاها يبقى علمه عند الله وحده..
فحتى الأمس القريب كنا على تواصلٍ هاتفي… كسابق عهدنا..
وسنأتي إلى ذكر التواصل هذا عند منتهى كلمتنا اليوم..
المهم شاءت الأقدار أن تجمعنا عاصمة الضباب..
تجمعنا على مائدة حوارٍ تلفزيوني… يُديره صاحب فضائية (المستقلة) الهاشمي..
كنا مجموعة من الموالين… والمعارضين… والمسؤولين..
ومن المعارضين الصادق المهدي..
ومن المسؤولين – والموالين – ربيع هذا… وأمين حسن عمر… وعبد الوهاب عثمان..
ثم نفر من زملائي الصحافيين..
وكانت أشد المساجلات عنفاً تلك التي بيني وبين ربيع هذا… طوال حلقات الندوة..
وفور خروجنا من الأستوديو يصير شخصاً آخر… حبوباً..
بل ونجلس سوياً… ونأكل سوياً… ونتفق في بعض النقد لحكومته سوياً..
وأكاد أحس أحياناً أنه يدافع من أجل الكلام..
من أجل أن يستشعر لذة المغالبة الكلامية مثل فلاسفة السفسطائية قديماً بأثينا..
ولكني أدركت بعد ذلك أنه كان صادقاً..
صادقاً في دفاعه – وصادقاً في نقده – كما سنتبين لاحقاً..
ثم جمعتني به تجربة مواجهة تلفزيونية ثانية… بعد سنوات..
كانت مواجهة هاتفية بقناة (الحرة)… وابتدرت الكلام منتقداً قسوة حرب دارفور..
وألقيت مسؤوليتها على عاتق البشير..
فلما مُنحت الفرصة لربيع قال (أول حاجة… وقبل كل شيء… هذا الرجل شيوعي)..
وانقطع الاتصال الهاتفي… فلم أسمع بقية كلامه..
ولعله أضاف إلى ما قال (ثم إنه لا يصلي)..
ولكن ربيع الوطني هذا فاجأني – وآخرين – بـ(نيو لوك) كلامي قبل السقوط..
قبيل سقوط نظامه… وزوال ربيعه..
فقد شاهدته عبر شاشة (العربية) وهو يتحدث بكلام غريب جداً..
كلام ذكرني بكلام الشاعر عزمي:
ولا الكلام الكان زمان
هســـــــه كلامـــــــك
وفركت عيني لأتيقن هل هو ربيع نفسه الذي يتكلم؟… أم يخلق من الشبه (ربائعيين)؟..
فوجدته هو؛ بشحمه… ولحمه… و(لجاجته)..
ولكنها كانت لجاجة (عكسية) هذه المرة… مصوبة نحو مرمى نظامه بدقة..
وأكثر فيها – كعادته – من مفردة (ينبغي)..
وما كانت (ينبغي) التي نعرفها… وإنما انطلقت من مدفعية فمه كنيران صديقة..
ولا التي عرفتها الفضائيات أيضاً؛ فدَهِشت المذيعة..
ومن بين ما قاله: كان (ينبغي) على أمورنا أن تسير على وجهها الصحيح بدءاً..
ولو حدث هذا – يقول – لكنا شهدنا أربع دورات رئاسية..
وأضاف إلى ذلك الكثير… المثير… الخطر؛ فما الذي جرى لربيع عبد العاطي؟..
ومهما يكن فقد اتفقت مع ربيع لأول مرة..
ثم اتفقت معه – ثانيةً – في سياق الحديث الهاتفي بيننا الذي أشرت إليه..
والذي قال فيه إنه كان مضطراً لأن يتكلم بلسانين..
أو أن يكون له وجهان..
وجهٌ ناقد؛ يواجه به جماعته داخلياً..
وآخر مدافع؛ يواجه به خصوم حزبه – خارجياً – بحكم منصبه الرسمي..
وقال إنه كان يستشعر حتمية سقوط نظامه..
وذلك بعد أن لم تُجد نفعاً كل (ينبغي) حاول أن ينبه بها إخوانه قبل فوات الأوان..
وقال إنه تابع محاولات مماثلة من تلقائي مع جماعتي..
مع جماعة قحت؛ فكانوا صُماً… بُكماً… عُمياً..
ورغم كرهي لمفردة ينبغي هذه – فلسفياً – إلا أنني رددتها معه البارحة..
ينبغي أن تسير أمورنا كلها كما ينبغي..
كيما نغني جميعاً: الجو بديع..
والدنيا ربيع!!.
صحيفة الصيحة