ايام كارلوس في الخرطوم.. مشهد (36)

ما أن خرج المحبوب من مكتب الترابي متعجِّباً، حتى بعث الترابي لـ”صلاح سعد“ برسالة عاجلة لمقابلته. كان صلاح سعد من أذكى ضباط الجهاز الناشئ آنذاك ولعب دوراً مهماً في التخطيط وتنفيذ الانقلاب، وكان الترابي يضع فيه كامل ثقته منذ أن كان طالباً بكلية الهندسة جامعة الخرطوم. كان صلاح لدى الترابي دائماً هو رجُلُ المُخابرات الخاصة التي توكلُ إليه المهام الجِسام. كان الترابي لا يعبأ بالتراتُبية في الجهاز، ويخدم أجندته بطُرُقه الخاصة جداً. كان بين صلاح والشيخ وُدٌ عميق قبل أن يدور الزمان دورته، فيسجن الحِوارُ شيخَه وقبل أن يستدير الزمان مرَّة أخرى ليجد الحِوار وشيخه نفسيهما خارج حلبة السياسة التي كان لهُما القدر المعلى في بناء مداميكها… تلك الأيام.

دخل صلاح إلى الشيخ الذي نهض ليُسلِّم عليه بحميمية، ثم تناول الكتاب من الدرج ودفعه إليه، قائلاً:
– «هنالك معلومة أن كارلوس موجود بالبلاد»… وبطريقته تلك تابع: «تعرف كارلوس طبعاً»…
– أومأ صلاح مبتسماً ومعلقاً: «عملياته وتحرُّكاته تُدرَّس الآن في العالم»…
– ثم دَفَعَ إليه الترابي بكرت ليلى قائلاً: «هي أرملة أخينا المرحوم بابكر عُمَر… ليس لديَّ أكثر من ذلك… عليك أن تتصرَّف»، وأشار الترابي بسبابته لصلاح وقرنها مع إبهامه… تلك الحركة مفهومة لدى كل من تعامل مع الترابي عن قُرب… تعني أن هذا الأمر سرٌ، دائرته مغلقة على اثنين، الإصبع والسبابة.

مشهد (37)

في المساء، ووسط ضحكات الرفاق، ارتدى كارلوس عمة وجلابية جديدتين لأوَّل مرَّة، والجميع يهللون… على بركة الله يا شيخ… أُخِذت لقطات عديدة له أمام الباب وهو يهم بركوب العربة، على أنَّ أهم لقطة أخذت كانت من على بلكونة شقة تطل على منزله!!

مشهد (38)

لم يملك الدكتور عبدالحفيظ، أخصائي الجراحة بمستشفى ابن خلدون إلا أن يبتسم وهو يشاهد كارلوس وسط اثنين من مرافقيه الأجانب مرتدياً جلابية ”ودَّ الطهور“ حين ظهر أمام ممر العمليات لإجراء عملية الختان. كان د. عبدالحفيظ قد تشكَّك في أمر كارلوس حين أخطره برغبته في الختان بسبب أنه يرغب في إعلان إسلامه ويتزوَّج من سودانية، الشيء الذي لا يصح إلا بالختان… وسبب دهشة الدكتور أن كارلوس بدا مستعداً ومستعجلاً لإجراء العملية، ومن ناحية أخرى سؤال حيرة: لماذا يأتي هذا المستثمر اللبناني إلى السودان ليعلن إسلامه ويُختنُ ويتزوَّج سودانية؟! هل هذا هو الاستثمار اللبناني في السودان؟! ألم يكن ذلك متاحاً في لبنان؟!

ضجَّت هذه الأفكار بذهنه وهو يتمِّم أغرب عملية ختان، وما أن انتهى حتى قال له: «مبروك يا عريس، إنت الآن سوداني كامل الدسم»… أتمَّها كارلوس: «ومسلم»!! لم يبدُ على كارلوس أي ألم من جرَّاء تلك العملية التي انتظر الفراغ منها بفارغ الصبر. أخذه مرافقاه إلى حيث العربة بعد انتهاء العملية، حيث أمرهم بالتوقف عند محل ليلى قبل الذهاب للمنزل… حاول المرافقان إثناءه، ولكنه أصرَّ على رأيه فأطاعاه.

مشهد (39)

كان ”صلاح سعد“ هادئاً وهو يتأمَّل التُحف المتراصَّة بالمحل… بدا المحل غريباً عليه وهو الآن يبدو خالياً إلاَّ من شاب وسيم يجلس في آخر المحل يطالع كتاباً مدرسياً. نظر إلى حيث يجلس الشاب في رُكنٍ المحل حيث صورة العميد بابكر عُمَر، فترحَّم عليه. كان صلاح يعرف العميد جيداً، وعمل معه في إحدى لجان التخطيط السرية للانقلاب والتقاه أكثر من مرَّة ويعرف زوجته الأولى هُدى النوارني الأمين، والدها صاحب المخابز الشهيرة. لم يطُل تطواف صلاح بالمحل حتى أطلَّت ليلى مستعجلة ومعتذرة لابنها لأنها تأخَّرت عليه وأضاعت عليه دروسه. غادر الابن، وانتبهت ليلى لوجود زبون، فرمقته بنظرة. كان صلاح في ذلك الوقت ممسكاً بسيجارة برنجي بيده، الشيء الذي دفع ليلى لإخطاره بحزم: «التدخين ممنوع داخل المحل يا أستاذ»… قالتها بلغة جافة جداً بعد إعادة تفحُّص صلاح من رأسه ”لي كُرعينه“.

لا يبدو على صلاح أنه من النوع الذي يهتم بالتحف، فليلى تعرف زبائنها جيداً من شكلهم وهندامهم ومن طرائق تعامُلهم مع بضاعتها. رفع صلاح بصره إليها… نظر إليها ونظر للصورة أكثر من مرَّة مما أثار حنقها وتمنت مغادرته. صلاح أمضى أياما يقرأ عن كارلوس ويجمع معلومات في غاية الأهمية عن ليلى. تلك المعلومات ستفيده كثيراً في تفكيك ألغاز مهمته الجديدة. استجاب صلاح لرغبة ليلى التي لم تفصح عنها، ولكنه قرأ ما بعينها الجميلتين فغادر. إلا أن أمله خاب في رؤية الابتسامة. قالوا له في التقارير إن ليلى صارمة، ولكنها ذات ابتسامة ساحرة. الآن عرف صرامتها ولكن غابت ابتسامتها. خرج صلاح ليتوقف بالخارج مشعلاً سيجارة متأملاً المحل والمنطقة بالخارج.

مشهد (40)

توقفت العربة الكريسيدا أمام المحل بالقُرب من حيث يقف صلاح سعد. ترجَّل أحدهم إلى المحل. نظر صلاح لداخل العربة فشاهد شخصاً يلبس عمة وجلابية ومعه مرافق. عاد الرجل من الداخل برفقة ليلى التي توقفت عند الباب الأمامي للعربة لتُبدي اندهاشتها، ومن ثمَّ أطلقت ابتسامة التقطها صلاح، أعقبتها بضحكة بهيَّة قبل أن تبدأ الكلام مع من بداخل العربة. كان منظر كارلوس مضحكاً ومثيراً.

ليلى التي تملك روحاً مرحة وسمحة لم تتمالك نفسها لدقائق وطفقت تضحك من منظره بالجلباب والعمَّة. أنهت ليلى ضحكتها ثم تجهَّمت واضطربت. بدا أن حديثها مع الرجُل بداخل العربة عكَّر مزاجها فجأة. عادت ليلى بسرعة لداخل المحل وغادرت العربة المحل وخلفها عربة صلاح الذي أدرك أن صيده الذي يطارده الآن في جوف الفَرا.

مشهد (41)

في غرفة برُكن قصي بمنزل بالمنشية استمع الترابي لأوَّل مرَّة لتقرير حول موضوع ”الضيف“ الذي في عُهدة صلاح. اتفق صلاح والشيخ على هذه التسمية، ”الضيف“. أوضح صلاح ما قام به حتى لحظة تتبُّعه للضيف لمنزله بالعمارات هذا المساء، موضحاً أن العُقدة الرئيسية التي تواجههه هي كيفية التأكد من شخصية كارلوس… فقال الترابي: «لاقيهو»!! أطرق صلاح ثم صمت وبدا مهموماً. غادر الترابي الغرفة إلى الصالون حيث يتجلى الترابي في أنسه كل ليلة ويبذل من المعلومات عن شئون البلاد والعباد ما لم يكن متاحاً لأحد يومها. ما جلب الهموم لصلاح أنه كان يعتقد أن مهمته هي التأكد من وجود كارلوس بالسودان ثم تسليم المهمَّة لمن هُم أعلى منه حتى لا يسبِّب مشاكل لنفسه. الآن بدا له أن الشيخ يفكر بطريقة أخرى.

مشهد (42)

لم تنُم ليلى ليلتها تلك. هذا المغامر المجنون يمضي بسرعة أكثر مما توقعت. اليوم أخطرها بختانه، وقبلها بأيام أعلن لها أنه أسلم على يد شيخ بواسطة تاجر محاصيل في مسجد العمارات. الآن يطلب منها أن تعمل على ترتيب أمر زواجهما!! أكثر ما كان يؤرِّقها هو الصدمة التي يمكن أن تحدثها إعلان رغبتها تلك وسط العائلة، ولا تدري ماذا سيكون رد فعلهم. ليلى بنت عائلة محافظة تراعي الأعراف السودانية حق رعايتها، ليس سهلاً علياسرتها قبول أجنبي حتى ولو كان عربياً لبنانياً. ثم كيف سيتلقى أولادها الخبر. والشيء الذي يقلقها أكثر أنها لن تستطيع كشف حقيقة من هو بديع!!

مشهد (43)

أرسل الأستاذ ”عطا بخيت“، الدبلوماسي بالسفارة السودانية بفرنسا برقية عاجلة للخرطوم غاية في السرية. أشار عطا إلى حديث هامس مع رجل مخابرات فرنسي أخطره فيها أن لديهم معلومات بأن كارلوس يقيم بالخرطوم وأن الفرنسيين سيطالبون بتسليمه في لقائهم مع نظرائهم السودانيين في اجتماع سبتمبر (1993) القادم. انتهت البرقية التي استلمها مدير الأمن الخارجي آنذاك ”هاشم باسعيد“. الحقيقة أن هاشم لم يُعِرْ المعلومات الواردة من باريس اهتماماً، وعدَّها تخرُّصات من الفرنسيين الذين أصبح لهم كارلوس بعبعاً كبيراً… أو أنها محاولة لدمغهم بالإرهاب. ترك البرقية على مكتبه دون تعليق وذهب يبحث عن حسب الله عُمَر ليروي له آخر نكات الفرنسيين!!

مشهد (44)

في اجتماع الصباح في اليوم التالي بدأت مناقشة البرقية التي وصلت من فرنسا وسير التحضيرات للقاء الفرنسيين. إذا صحَّت المعلومة فإن كارلوس سيدخل أجندة الحوار مع الفرنسيين. تداولوا بالاجتماع المعلومة، فتساءل البعض عن مدى صحَّتها. هل كارلوس فعلاً بالخرطوم؟! لا أحد لديه في جهاز الأمن الخارجي معلومة بوجود كارلوس بالخرطوم. ولمَّا كان صلاح سعد أبرز ضبَّاط الأمن الداخلي قرَّروا دعوته للسفر لفرنسا مع الوفد ليكون حاضراً إذا ما تطلب الأمر رداً حول وجود كارلوس بالخرطوم.

مشهد (45)

وقف حسب الله أمام الباب قبل أن يعبُر لداخل المكتب قائلاً لصلاح:
– «جهِّز نفسك هنالك سفرية لفرنسا الأسبوع الجاي»، صُعِقَ صلاح حتى وقف على طوله من المفاجأة…
– «إن شاء الله خير»…
– حسب الله: «الفرنسيين ديل يا سيِّد يبدو عندهم قصص طويلة معنا عاوزننا نمشي نناقشا معاهُم، لكن أغرب حاجة قالوها لناس السفارة إنو كارلوس في الخرطوم»…تعرف كارلوس؟
– تراجع صلاح للكرسي مرَّة أخرى مشعلاً سيجارة وأخذ منها نفساً عميقاً…
– وقال حسب الله مواصلاً: «قالوا كارلوس في الخرطوم، تصوَّر… باسعيد قال دي نكتة!!»…
– قال صلاح: فى زول مابعرف كارلوس لكنتعرف يا حسبو مرَّات في نكت بتبقى حقيقة!!»…

مشهد (46)

كانت أياماً صعبة على كارلوس، إذ تعقَّدت أوضاعه بوصول زوجته الأردنية ”لبنى التاجي عبدالسلام“ إلى الخرطوم فجأة… في مثل هذا التوقيت القاتل تصل ”لبنى التاجي“ كأن أحداً قد حدَّثها بأن زوجُها يمضي بخطوات متقدِّمة لإتمام زيجة جديدة… كما دُمِغَ كارلوس طوال ثلاثين عاماً بالإرهاب، الآن يمكن تسميته ”مزاوجاً“ دولياً. فلكارلوس الآن في كل قارة زوجة وولد. «إرهابي في كلِّ بلد سوَّالو أولاد»، كما قال مادحنا الشهير. ففي فنزويلا له ”بفريه باوقار“، وفي روسيا تزوَّج من الكوبية ”أرويليو“، من سوريا تزوج من ”هناء شوبر“ وفي الأردن ”لبنى التاجي“، وها هو يحاول إتمام مشاريع زواجه الدولي من القارة السمراء… لاحظت ”لبنى التاجي“ أن زوجها الآن أكثر شباباً وحيوية ويبدو أن الإقامة طابت له في السودان. عرفت لبنى بقصة إسلامه وختانه، وفاجأته حين قالت له: «لم يتبق لك إلا أن تتزوَّج سودانية»… ابتسم كارلوس، إذ يبدو أنها قرأت نواياه، ومَنْ غيرها يفهم كارلوس؟! لا زالت الطريقة التي تزوَّجها بها مثار دهشة بين أفراد أسرتها وبين رفاقه… ولكن، تلك قصة أخرى.

هبطت ”لبنى التاجي“ على كارلوس فجأة فأربكت خُططه، وأصبح حائراً بين الإقدام على الزواج أثناء وجودها أم ينتظر مغادرتها؟! الخيار في يد ليلى، وسيعرف رأيها قريباً.

صحيفة اليوم التالي

Exit mobile version