رمضان كريم..
ومصطفى سيد أحمد غنى: غابة الأبنوس عيونك..
أما نحن فغنينا: كيكة الأبنوس فنونك..
وهي نفسها كانت أبنوسية..
وربما كانت ذات فنون أخرى؛ ولكن ما يهمنا – آنذاك – كيكتها هذه وحسب..
كانت زوجة المدير المالي للمؤسسة..
أما شقيقه الأصغر فكان صاحبنا؛ وأحد أفراد شلتنا..
وهما الاثنان من حيٍّ عريق بالخرطوم بحري..
وكنا نحرص على زيارة صديقنا هذا بعد الغروب..
فربما نصادف كيكة الأبنوس – من تلقاء الأبنوسية – مع شاي المساء الأبنوسي..
أو من تلقاء ابنة ملوك الدينكا..
ولكن لحظة سقوطنا في امتحان شهوة كيكة الأبنوس – الكاكاوية – لم تكن مسائية..
وذات يوم صادفناها نهاراً؛ في شهر رمضان..
وكنا نصوم جميعاً من غير ادّعاء لعميق تدين؛ ولا حرصٍ على إظهاره..
كان صوماً تلقائياً بسيطاً..
بمعنى أننا لم نكن نعبأ بالذي يشغل أذهان جماعة لنا بالمدرسة..
جماعة يمينية كانت مغرمة بالعبادات الدينية… وبعضٍ من الملذات الدنيوية..
شريطة أن تكون عباداتٍ ذات صوت – دعائي – جهير..
ومن الملذات هذه حلويات (الخيرات)..
ثم كانت هي الأعلى صوتاً عند الاحتجاج على طعام الداخلية..
المهم أن صديقنا البحراوي هذا كان عائداً من الخرطوم..
بعد أن قضى إجازته في عوالم الطرب… والحضارة… و(ترباس)؛ حسب قوله..
وكان يُكثر من ترديد مقطع غنائي فيه كلمة (تِتِّي)..
والمفردة هذه – تتي – تعني البنت الصغيرة… الجميلة؛ حسبما أظن..
في ذياك الزمان الجميل..
وبما أن وصوله كان ليلاً فقد قررنا زيارته صباحاً..
وما أن جلسنا قليلاً حتى أتت الأبنوسية….. تحمل أبنوسيتها..
تحملها في غير موعدها الذي اعتدنا عليه..
ودَهِشنا؛ ولكن ما لبثت دهشتنا أن زالت حين علمنا السبب… رغم إنه كان ظاهراً..
كان ظاهراً لنا ما يعانيه عدلي من وعثاء السفر… ونزلة البرد..
وثلاثة منا نحن – الخمسة – كانوا يعانون الشيء ذاته… في مصادفة عجيبة..
ولكن لا أحد منا فكر في الأخذ برخصة الإفطار..
أو لا أحد فكر في ذلك قبل أن تُوضع أمامنا الكيكة الأبنوسية؛ والآنية الفضية..
وبعد أن استأذن عدلي منا نحن الصائمين بدأ في تقطيعها..
ومع كل قطع تتقطع مصاريننا شهوة إليها… وإلى الشاي… وإلى الحليب الطازج..
وفوجئنا بأحدنا يبالغ في إظهار ما يعانيه من رشح..
وطفق يئن… ويسعل… ويتمخط… ويستمطر الدمع من عينيه الصغيرتين استمطاراً..
وكأنما كان ينتظر ضوءاً أخضر من عدلي ليُظهر ما يُبطن..
فما أن قال له: يا أخي أنت مريض بمرضي نفسه وعليك أن تفطر حتى فطر..
حتى هجم على الكيكة قبل أن يُصب له الشاي..
ثم توالى الأنين… والسعال… والعطس… واستدرار الدمع من العيون الجافة..
وتوالى الهجوم على الكيكة… والشاي… والحليب..
وكانت المفاجأة أن تبعهم الاثنان السليمان بحجة (يبدو أن العدوى انتقلت إلينا)..
وسقط الجميع في امتحان شهوة الكيكة..
كما يسقط سياسيونا في امتحان شهوة السلطة..
وكما سقطت جماعتنا الدينية تلك في شهواتٍ دنيوية..
أما ذاكرتي أنا فتسقط دوماً في هوة الماضي البعيد؛ أو الماضي الجميل..
ثم تصعد منها ببعض جميل الذكريات..
فتجعله ترياقاً يقاوم قبح راهنٍ مؤذٍ للنفس… والعقل… والمشاعر..
وعز فيه كل جميل..
ذكريات زمان الأبنوس… والأبنوسية… والغروب الأبنوسي..
وتِـــــتِّي!!..
صحيفة الصيحة