فالنتينو توك ماج يرجع إلى الله في كامل أناقته

(1)
أحلامنا لا تموت ولا تشيخ :
بإصرار عجيب! بحث عني الجنرال توك ماج في الخرطوم قبل شهر من يومنا هذا، وهو على مشارف النهايات بعد رحلة قصيرة أمضاها في ضيافة الأرض، لكنه لم ينس أحلام الأمس وإن تباعدت وتناقصت تلك الأحلام؛ التي كانت على امتداد مليون ميل مربع.
جاء صوته عبر الهاتف واهناً وواثقاً، قال لي : إنني في الخرطوم وأعاني من مرض عضال؛ وأبحث عنك وأود لقاءك.. وذكر لي – دون تردد – بأنه سوف يموت في الخرطوم هذه المرة، وأردف قائلاً : لا أحد أثق به في هذه المدينة مثلما هي ثقتي بك، وأود أن أراك على وجه السرعة، وذكر لي بأن معضلة تواجهه؛ فهو يبحث عن طريقة للدخول لمستشفى رويال كير ولم يجد مكاناً شاغراً وأن أسرة المستشفى – على اتساعها – مشغولة حالياً ، واتصلت بطبيب وصديق ليساعده ولكنه أدخل المستشفى في نفس اليوم قبل مساعدتي له، وذهب إليه لاحقاً وسعدنا باللقاء، وقد ذهب معي دكتور محمد صالح ياسين ومحمد جعفر الشقيق الأصغر للراحل ياسر جعفر وفاجأني فالنتينو توك ماج مرة أخرى قائلاً أنت من كنت أبحث عنه طوال الوقت، عليك أن تعلم بأنني سوف أموت في هذه المدينة ولا أثق بأحد مثل ثقتي بك، وإذا مت فإن جثماني يجب أن يذهب إلى جوبا ! وغيرت مجرى الحديث، وقلت له الجنرال فالنتينو توك ماج أنت لن تموت، وقد خضت حروباً عديدة فكيف تموت في هذا السرير، لن تموت يا أخي، وتحدثت مع زوحته انجلينا وسألته عن أولاده وزوجته الكبيرة، وإمعانا في تغيير مجرى الحديث عرفته بمحمد صالح ياسين وأشرت له، هل تعرف هذا الرجل؟ هل يشبه أي أحد في ذاكرتك؟ تأمله وكنت أعني محمد جعفر، وقلت له هل يشبه ياسر جعفر السنهوري قال لي إنه ياسر جعفر نفسه قلت له إنه شقيقه الأصغر وواصلنا الحديث عن ياسر جعفر وعن الحركة الشعبية شمالاً وجنوباً وعن أحلام الأمس التي لا تموت ولا تشيخ.
اتفقنا أن الحركة الشعبية سميت بالشعبية لانتمائها للشعب الذي منه تأتي وإليه ترجع في تجلياتها الحقيقية والاستراتيجية، وتحدثنا عن انقلاب 25 اكتوبر في السودان وثورة ديسمبر وعن موقفي المؤيد والمنتمي بلا تردد للثورة وضد الانقلاب، وتحدثنا عن الجنوب.. عن الحلم والفكر والحقيقة والواقع.

(2)
في عام 1987م قام الدكتور جون قرنق بتعييننا في لجنة إدارة الكرمك والنيل الأزرق وقد كنت في أقصى غرب أعالي النيل في منطقة (جبل بوما) مع الراحل إدوارد لينو، وتلقينا تعليمات من دكتور جون قرنق ديمابيور للذهاب إلى معسكر إتنغ للاجئين حيث توجد قوة بالقرب من ذلك المعسكر وأن نلتقي بالقائد عبدالعزيز آدم الحلو، وأن نتوجه بقوة من الدعم إلى النيل الأزرق، وأن نلتقي بالقائد سلفاكير ميارديت قائد منطقة النيل الأزرق، والمسافة بين جبل بوما وإتنغ والنيل الأزرق مسافة شاسعة تمر بكامل شرق وغرب إثيوبيا حتى الحدود السودانية، كانت تلك هي المرة الأولى التي التقيت بها بعبدالعزيز آدم الحلو، وكنت على صلة بادوارد لينو منذ 1986م في الخرطوم، وصلنا إتنغ والتقينا بعبد العزيز، وتحركنا الى النيل الأزرق وتحاورنا تقريباً صباحاً ومساء، حتى وصلنا (قطع ورقة) مقر رئاسة سلفاكير الذي عملت معه سابقاً لعدة أشهر منذ تخرجنا من المدرسة السياسية، والذي رحب بنا ودعانا لتناول العشاء في ميز الضباط وأعطانا تعليمات بمواصلة الرحلة نفس الليلة إلى الكرمك، وأن لا نتوقف في الطريق، ووصلنا بعد منتصف الليل إلى الكرمك ورحب بنا قائدها الشهيد ايزك توت؛ ذلك الإنسان المميز والودود والذي رحل قبل الأوان، وتربطه صلة قوية بالقائد وليم نيون بنج الذي كان متزوجاً من شقيقة (سيدة)، ويتفق معظم الناس الذين يعرفونه أن ايزك توك لو لم يرحل مبكراً في معارك روكون بالقرب من جوبا، لما انشق وليم نيون من الحركة على أرجح الاحتمالات، فهو إنسان مصنوع من ماء وحدة الجنوبيين والمصالحة بين قبائلهم، والود بينهم وطوبى لأيزك توت وطوبى لوحدة الجنوبيين.

(3)
محبتنا للجنوبيين والجنوب لا تنقضي، وإذا ما رحلنا يوماً تظل أشواقنا معلقة على رقاب من يأتي بعدنا، ويؤمن مثلنا بوحدة الشمال والجنوب وبناء (اتحاد سوداني)، مجدداً، لكل علمه ودولته إن شئنا؛ ولكننا متحدون في مواجهة مصاعب المستقبل وقسوة الكرة الأرضية في اتحاد كونفدرالي أو اتحاد يمتد إلى القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، وبلدان الساحل ويكون عنوانا للتعاون الاستراتيجي بين بلدان الجنوب الجنوب.
وهذه الأيام نتمنى وندعو أن لا يتقاتل الجنوبيون مرة أخرى، وأن يصلوا إلى ما يحقن الدماء الغالية.

(4)
في النيل الأزرق 1987م كنا شباباً متوجهين وجامحين مثل خيول عصية على الترويج، وأحلامنا من القاهرة إلى رأس الرجاء الصالح، واعتقدنا دوماً في صلاح وفلاح الشعوب التي تمتد في مليون ميل مربع.
في ذلك الوقت التقيت بعزيزنا فالنتينو توك ماج وهو من البحيرات من منطقة يرول، كان معه آنذاك من أبناء البحيرات في النيل الأزرق الشهداء دوت دونغ بيل وجيرمن اتر وصمويل أقري، طالب جامعة جوبا، وجون كوت ومن الأحياء مقار بونق وشارلس شجيج، وارتوت الأرض بدماء من كل الأطراف؛ كانت تستحق أن تبذل في سبيل نهضة السودان، لولا تناقضات السودان المبذولة في مفارقات التاريخ والثقافة والاقتصاد والمجتمع. والأرض عطشاً لمشروع وطني يجمع ولا يفرق؛ لا زال في عتبات السماء ولم ينزل إلى الأرض بعد فهو يتخلق في عيون ديسمبريات وديسمبريين وأجيال مضت وأجيال ستأتي شمالاً وجنوباً في أعالي جمهورية النفق (والشعب يريد بناء سودان جديد).

(5)
في النيل الأزرق 1987م حينما التقينا بفالنتيو توك ماج؛ كانت الوجهة هي سودان موحد وعلماني وديمقراطي، لم نصل إلى وجهتنا وأحلامنا مؤجلة، وهي مثل أرواحنا تظل ترفرف لا يحدها الزمان و المكان، ومعظمنا كان يتعاطى تبغاً وماءً رخيصاً في ريف النيل الأزرق وبعض حانات الإثيوبيين اذا ما استطعنا إليها سبيلاً .

(6)
يوم الجمعة الماضي 25 مارس كنا على موعد مع المبدع الكبير أزهري محمد علي في منزله، عمر الدقير والحاج وراق وشخصي، صحوت مبكراً لأتاكد أن احمد موسى ومحمد عز الدين اللذين سوف يصطحباني عند موعدهما، وفي ذلك الصباح المبكر اتصلت بي زوجة توك ماج وهي تبكي وقالت لي إنه قد رحل، وطلبت مني المجيء إلى مكان سكنها، وذهبت على عجل لموافاتها، ومن بين دموعها حكت لي قصة أقرب إلى الخيال فقد تحدثت مع توك ماج وكنت أنوي زيارته مساء الخميس، ولأسباب طارئه لم أذهب ذلك المساء. قالت إنه في مساء الخميس عند الساعة العاشرة كانت تجلس مع توك ماج وأبنائهما، وطلب منها أن تأتي له بحقيبة ملابسه، وقالت له يا راجل الدنيا ليل إنت ماشي وين؟ وقال لها إنه يريد بنطلون (جينز وفنيلة) وذكرت له أن الجلابية أحسن لك وأكثر راحة، ولكنه أصر، وبعد أن ساعدته في ارتداء ملابسه بنطلون (جنيز والفنيلة) طلب منها أن تأخذ قسطاً من الراحة، وأن تتركه للحديث مع أبنائه، وتركتهم وذهبت الى الغرفة الأخرى وأخذ يتحدث مع أبنائه، وبعد أقل من ساعة ركض ابناؤها قائلين لها إن أباهم يتنفس بصعوبة، وطلبت الإسعاف، وفي الطريق إلى المستشفى فارق توك ماج عالمنا، مثل ما أكد لي منذ البداية بأن رحلته للخرطوم سوف تكون الأخيرة.
وهو في طريقه إلى دولة جنوب السودان لتضمه الأرض التي طالما أحبها، وقد اختار من حقيبة ملابسه أفضلها للقاء الله وشعبه في السودانيْن، وأراد أن يلتقي الله وهو في كامل أناقته، ورحل جسوراً مثل ما قاتل والتقى بربه أنيقاً وباسلاً، وطوبى لمن أحبوا شعوب السودان جميعاً لا نفرق بين أحد من شعوب بلادنا.

تنويه أول :
لم تتوقف الأكاذيب، ولن أتوقف عن دعم الثورة.
ورد في مواقع محاسيب النظام السابق ذات الذمة الواسعة والغريقة والرجس المبين، خبر بعنوان (ياسر عرمان في تصريحات خطيرة الحركة الإسلامية هي من أطاحت بنظام البشير) الحقيقة أن الشعب هو من أطاح بنظام البشير وعصابته، وأنا لا يمكن أن أقول ذلك القول، واستهدافي من جهات عديدة صباحاً ومساءً لا يروق لها موقفي منذ سنوات طويلة قبل ثورة ديسمبر وبعدها، وظلوا يستهدفونني بالأكاذيب، ولا يصح إلا الصحيح، فأنا مع الثورة وضد الانقلاب، شاء من شاء وأبى من أبى، ومن لم يعجبه ذلك فليشرب من شلال السبلوقة.

تنويه ثاني :
سوف أكمل الجزء الثاني من مقالة الحل السياسي زائف أم حقيقي _ مبدأ الجيش الواحد نحو إصلاح وتأسيس ثالث للقوات المسلحة السودانية مع وافر التحايا والمحبة.

صحيفة اليوم التالي

Exit mobile version