أهلا بك أيها الطائر العظيم..يا حمام الوادي يا راحل..
قال الأخ الصديق ضياء الدين بلال في أول وقفة بكاء على الوطن الذي ترك: (أبوك يا رنا ما زول .غربة..لكن الظروف جابرة).. وهذه التماسة عزاء له وفي الخلفية صوت الفنان حمد الريح في وصاياه العشر لحمام الوادي.
طيب يا صديقي ..كلللنا الشايفنا ديل ما حقين غربة فشنو أركز ..و المشكلة كلها حتكون في العشر سنوات الأولى فيما يُروى عن أول مهاجر. هذا ( نمرة واحد) و ( نمرة تلاتة) لازم تنزل ( ماكينة الضيف العابر) بتاع المؤتمرات و الاستجمامات و الحركات و تركب (ماكينة المغترب) و تنضم الى سرب ( الطيور المهاجرة ) التي واحدها ( طيرة) .. هل لاحظت الرومانسية العالقة بعبارة (الطيور المهاجرة) و شتارة العبارة حين (الإفراد) فينتهي واحدها الى مجرد (طيرة ساكت)..و كتاب الطيور المهاجرة كتاب عظيم في شيل (التقيلة) التي رمتها الحكومات المتعاقبة عن أكتافها و ألقت بها على أكتاف الطيور الشايلة في إيدينا جواز سفر تبحث عن ( أوطان الآخرين) و في ذلك بلاء أي بلاء لا يخفف منه إلا التعزية الربانية أن الأرض لله فأمشوا في مناكبها و هذه ( المناكب ) هي وحدها التي توسع دائرة الوطن شيئا ما و لكنها لا تعوضه أو تقوم مقامه.
و ما ذنب أعرابية قذفت بها
صروف النوى من حيث لم تك ظنتِ
إذا ذكرت ماء العذيب و طيبه
و برد حصاه آخر الليل حنَّتِ
لها أنَّة عند العشاء و أنَّة سُحيرا
و لولا أنتاها لجُنتِ
هذا و الأعرابية و الأعرابي سواء في التوجع و التفجع على فقد الأوطان و الحنين إليها، فشنو أركز.. و كنت فيما مضى يستعصي علي إدراك مفهوم ( التغريب) كعقوبة تعادل في بعدها المادي القطع من خلاف ..يا للهول! ثم حين تدرك و تسبر أغوار الغربة طائعا أو مكرها و حين ترى الشمس ليست كالشمس و لا الصباح كالصباح و لا الليل كالليل و لا الناس كالناس ستفهم بعمق أكثر ( تجربتك الوجودية) و ستدرك بعمق أبعد مدى علاقة ذلك كله ( بعلة وطنك) و سترى أن هذه ( الحالة السيزيفية) لإصلاحه لن تتوقف و أن هذه الرغبة الملحاحة من الشباب الذين يملأون الشوارع احتجاجا و تصميما و تضحيات سيكون في وسعهم يوما ما كسر ( عبثية أسطرة السقوط و القيام كأنها حتمية ما تنفك عن السودان).. كلا لن تذهب كل هذه التضحيات هباء.. و سيأتي عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون. و ستستقيم السياسة بيانا و عملا..ستكون قومة ليس بعدها قعود أو انكسار.
ستشقى يا صديقي و أنت تتأمل من بعيد في (فوضى السياسة و أزمة القيادة) في البلد.. و ستؤرق منام عينك صورته الكسيرة و يده السفلى التي لامست الأرض و سيغضبك أن كل ذلك لا يعبر عن جماع فضائلنا. سيمكنك البعد من رؤية ( الكليات) في عناوينها الكبرى التي ما أكثر ما حجبتها التفاصيل و ألهت عن رؤيتها عجاجة ( الهرج القومي) الذي انحطت اليه السياسة ممارسة و خطابا.
ستعيد اكتشاف الغناء السوداني و ستقف على ( مشاعر مرهفات شديدات الخفوت شديدات الخفاء ستلسع عصبك العاري لسعة كهرباء ..ستسمع وردي و هو يغني الطير المهاجر و هو ( طير لا يشبه طيورنا المهاجرة) هذا طير ( يتفسح في الكون الرحيب ما بين شتاء و خريف و صيف) لكن (طيورنا) سافرت بليل فزعة بعد أن فرقت الريح أعشاشها فهي تطير صوب ما لا تعرف من الجهات فلا تزال في تلفت من قلبها دائم الى الذي كان ثم لم يعد.
الدوحة تعرفها و تعرفك وهي مدينة ودودة كود أهلها و عامرة بالنشاط الثقافي و مؤتمراتها ااقليمية و الدولية لا تنتهي ثم هي تستضيف كاس العالم فترى المباريات كفاحا بما سيرفع من ذائقة التذوق الكروي لديك التي أفسدها الهلال و المريخ و الفريق (الغومي) بما يمكنك من العدودة مدربا إن شئت.
من الآن فصاعدا سيتم اعتمادك في (كشوفات العون الانساني) عدلك بره و لولا مراعاة لظرفك لطالبناك بدفع نصيبك في (قومة) حمدوك التي لم تقم لها قائمة. حين تقرر السفر في أول إجازة لن تتجاوز مهمتنا توجيهك الى الأسواق ذات الأسعار المعقولة. سيتحتم عليك اتخاذ قرار في موضوع الشيشة فتكلفة الكيف هنا جد مكلفة.
أما النصيحة التي يجب أن تضعها فهي تحديد أهدافك..و بكلمة واحدة (هدفك). الاغتراب..طبعا كلمة (الهجرة) ألطف وقعا على القلب فلنقل إن الهجرة يمكن أن تتحول بطول الايغال فيها (حالة تجذر) في المكان و (إلفة قلقة) معه، و الى (وهم) كبير أنك تعتقل (الزمن) ريثما تفرق من (مهمتك) ثم تعود لتعيش الحياة..هذا وهم لذيذ.. حدثني صديق إنه ذهب أول سني شبابه لاحضار (شنطة عرسه) فمكث ثلاثين عاما.
سيؤلمك مع هذه الفرضية الارجائية لاستئناف الحياة أن الزمن سيتسرب من بين يديك كما يتسرب (لوح الثلج) في نهار غائظ و أن العمر يتبخر في (طلب الحياة الأهنأ في الأماكن الأحلى) و أن مثل العمر تتبخر الأوطان حين تسوس أمرها الأيدي الخاطئة و النواصي الكاذبة و العقول الفارغة.
و لن يطول بك الوقت لتعرف يا صديقي أن هجرتنا أو غربتنا هي الوجه الآخر (لمأساتنا الوطنية). و أن الوطن كلما ذهب بعيدا في متاهته و ضياعه كلما ذهبنا نحن (الطيور المُفَزَّعة) بعيدا في مضارب الريح. كنت تتلقاني عائدا الى البلاد أو راجعا مثقلا بها فاغبطك على بقائك في الوطن (تعافر) و تكتب بصدق و أمانة و شجاعة في وطن كله هرج و مرج إلا من شبابه و سوق سياسية كثر فيها البيع و الشراء بالجملة و القطاعي فتخرج كلماتك مثل التماعة البرق في ليل بهيم..سيطول الليل و لكنه سيأتي بفجر صادق تنتصر فيه إرادة الشعب الحر و سيذهب كل هذا الغثاء كما ذهب غيره ثم لا يبقى إلا من هو جدير بالعيش في هذه البلاد العظيمة.
أوطاننا لا تغادرنا و إن غادرناها و لن تعدم طريقة لوصل بها لن ينقطع ..هكذا تفعل الطيور المهاجرة ..فأهلا بك أيها الطائر العظيم في سربك الوطني ذي المواويل الطوال في رحلات الغدو و الآصال بين هناك و هناك.
فوزي بشرى