جعفر عباس يكتب : المستهتر يكسب والمنضبط يخسر

مثل‭ ‬معظم‭ ‬أبناء‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬السفلي‭ ‬فقد‭ ‬شغلت‭ ‬مرغما‭ ‬وبدواعي‭ ‬كسب‭ ‬العيش‭ ‬وظائف‭ ‬عديمة‭ ‬الجدوى‭ ‬لي‭ ‬وللجهة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬لديها،‭ ‬أي‭ ‬إنني‭ ‬كنت‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ (‬الأحياء‭ ‬الأموات‭)‬،‭ ‬وهم‭ ‬الموظفون‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يحس‭ ‬أحد‭ ‬بوجودهم‭ ‬ولا‭ ‬يكلفهم‭ ‬أحد‭ ‬بمهمة‭ ‬ما،‭ ‬وفي‭ ‬بداية‭ ‬الأمر‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬تقاضي‭ ‬راتب‭ ‬نظير‭ ‬عدم‭ ‬فعل‭ ‬شيء‭ ‬ممتعاً،‭ ‬ولكنك‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تحس‭ ‬بالتهميش‭ ‬والضآلة،‭ ‬هذا‭ ‬بالطبع‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬ذا‭ ‬كرامة‭ ‬و‮«‬ضمير‮»‬‭.‬ حدث‭ ‬لي‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬محطتين‭ ‬قصيرتين‭ ‬من‭ ‬حياتي‭ ‬العملية،‭ ‬وفي‭ ‬كلتا‭ ‬الحالتين‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬غاضباً‭ ‬من‭ ‬نفسي‭ ‬وحزينا،‭ ‬لأن‭ ‬بقائي‭ ‬في‭ ‬وظيفة‭ ‬ما‭ ‬دون‭ ‬أداء‭ ‬مهام‭ ‬ذات‭ ‬قيمة‭ ‬كان‭ ‬طعنا‭ ‬في‭ ‬قدراتي،‭ ‬وكان‭ ‬الراتب‭ ‬الذي‭ ‬أتقاضاه‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أقوم‭ ‬بشيء‭ ‬ذي‭ ‬بال‭ ‬‮«‬صدقة‮»‬‭ ‬في‭ ‬تقديري،‭ ‬والانسان‭ ‬العفيف‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬الصدقات‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬أقرب‭ ‬الأقربين،‭ ‬وهكذا‭ ‬سعيت‭ ‬ونجحت‭ ‬في‭ ‬هجر‭ ‬الوظيفتين‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬عمل‭ ‬يرضي‭ ‬ضميري‭ ‬ويمنحني‭ ‬الإحساس‭ ‬بأنني‭ ‬مفيد‭ ‬وذو‭ ‬قيمة‭. ‬والمشكلة‭ ‬هي‭ ‬أنك‭ ‬تستطيع‭ ‬إثبات‭ ‬وجودك‭ ‬في‭ ‬بيئات‭ ‬العمل‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬محدود‭ ‬من‭ ‬الموظفين،‭ ‬حيث‭ ‬يكون‭ ‬اجتهادك‭ ‬وإخلاصك‭ ‬بادياً‭ ‬للعيان،‭ ‬ولكنك‭ ‬قد‭ ‬تضيع‭ ‬في‭ ‬‮«‬الطوشة‮»‬‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬تعمل‭ -‬مثلاً‭- ‬في‭ ‬شركة‭ ‬بها‭ ‬مئات‭ ‬أو‭ ‬آلاف‭ ‬الموظفين،‭ ‬فقد‭ ‬تكون‭ ‬مواظباً‭ ‬ومجدّاً‭ ‬ومخلصاً‭ ‬ولكن‭ ‬رؤساءك‭ ‬لا‭ ‬يلاحظون‭ ‬ذلك،‭ ‬فلا‭ ‬تجد‭ ‬جهودك‭ ‬التقدير،‭ ‬ولكنهم‭ ‬يلاحظون‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬هم‭ ‬لهم‭ ‬سوى‭ ‬تسويق‭ ‬أنفسهم،‭ ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬بيئة‭ ‬عمل‭ ‬كبيرة‭ ‬نفر‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬يشبهون‭ ‬الطبول‭ ‬الجوفاء‭: ‬يحدثون‭ ‬جلبة‭ ‬وضجيجا‭ ‬للفت‭ ‬الأنظار‭ ‬إلى‭ ‬أنفسهم،‭ ‬وهم‭ ‬يتحركون‭ ‬بملابسهم‭ ‬الأنيقة‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬حاملين‭ ‬الملفات،‭ ‬ويتقربون‭ ‬إلى‭ ‬رؤسائهم‭ ‬باقتراحات‭ ‬سمعوها‭ ‬من‭ ‬زملائهم‭ ‬‮«‬المجتهدين‭ ‬في‭ ‬صمت‮»‬،‭ ‬ويثرثرون‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬الاجتماعات‭ ‬بما‭ ‬يعطي‭ ‬الانطباع‭ ‬بأنهم‭ (‬فاهمون‭/ ‬فهمانون‭). ‬وفي‭ ‬وضع‭ ‬كهذا‭ ‬يصبح‭ ‬أداء‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬إهماله‭ ‬سيان،‭ ‬فـ‭(‬الإدارة‭) ‬تكون‭ ‬معنية‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أساسي‭ ‬بمسائل‭ ‬شكلية‭ ‬غير‭ ‬ذات‭ ‬بال‭ ‬مثل‭ ‬مدى‭ ‬تمسك‭ ‬الموظف‭ ‬بمواعيد‭ ‬الحضور‭ ‬والانصراف،‭ ‬فطالما‭ ‬أنك‭ ‬تأتي‭ ‬إلى‭ ‬المكتب‭ ‬وتجلس‭ ‬فيه‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬المدة‭ ‬المقررة‭ ‬فأنت‭ ‬‮«‬في‭ ‬السليم‮»‬،‭ ‬وتجد‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬أنظمة‭ ‬الكترونية‭ ‬لرصد‭ ‬مواعيد‭ ‬حضور‭ ‬الموظفين‭ ‬وانصرافهم‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬أي‭ ‬نظام‭ ‬لرصد‭ ‬إنتاجيتهم‭ ‬وكفاءاتهم،‭ ‬وهكذا‭ ‬يجد‭ ‬موظف‭ ‬مؤهل‭ ‬وكفء‭ ‬نفسه‭ ‬محنطاً‭ ‬في‭ ‬مكتب،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يوكل‭ ‬إليه‭ ‬مهمة‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يحاسبه‭ ‬على‭ ‬الجلوس‭ ‬ساهماً‭ ‬وواجماً،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يبدأ‭ ‬هذا‭ ‬الموظف‭ ‬في‭ ‬ابتكار‭ ‬وسائل‭ ‬لنفي‭ ‬الملل،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬لديه‭ ‬خدمة‭ ‬الإنترنت‭ ‬في‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬الذي‭ ‬أمامه،‭ ‬فإنه‭ ‬يجعل‭ ‬البريد‭ ‬الالكتروني‭ ‬أداة‭ ‬‮«‬سوالف‭ ‬ومؤانسة‭ ‬وترفيه‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬يدخل‭ ‬غرفة‭ ‬المحادثات‭ (‬التشات‭) ‬ويندمج‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬الفارغ،‭ ‬ويدخل‭ ‬تويتر‭ ‬ويرسل‭ ‬تغريدة‭ ‬منقولة‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬عبر‭ ‬الأثير‭ ‬ليعطي‭ ‬الانطباع‭ ‬بأنه‭ ‬خطير‭ (‬الموظف‭ ‬المستهبل‭ ‬لا‭ ‬يميل‭ ‬الى‭ ‬استخدام‭ ‬الهاتف‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬‮«‬الفارغة‮»‬‭ ‬لأن‭ ‬أمره‭ ‬يكون‭ ‬مكشوفا‭ ‬إذا‭ ‬أطال‭ ‬العبث‭ ‬بأزرار‭ ‬الهاتف،‭ ‬بينما‭ ‬قد‭ ‬يحسبه‭ ‬الآخرون‭ ‬يقوم‭ ‬بعمل‭ ‬رسمي‭ ‬وهو‭ ‬جالس‭ ‬الى‭ ‬الكمبيوتر‭).‬ وأحياناً‭ ‬قد‭ ‬يفاجأ‭ ‬الموظف‭ ‬اللعبنجي‭ ‬بأن‭ ‬زملاءه‭ ‬غادروا‭ ‬المكتب‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬مندمجاً‭ ‬في‭ ‬الإنترنت،‭ ‬ويخرج‭ ‬مهرولاً‭ ‬فيراه‭ ‬رئيسه‭ ‬المباشر‭ ‬مصادفة‭ ‬ويستنتج‭ ‬أنه‭ ‬مجتهد‭ ‬ويعمل‭ ‬ساعات‭ ‬تفوق‭ ‬الساعات‭ ‬المقررة‭ ‬ويأخذ‭ ‬عنه‭ ‬انطباعا‭ ‬إيجابياً،‭ ‬ويفاجأ‭ ‬ذلك‭ ‬الموظف‭ ‬عند‭ ‬التقييم‭ ‬السنوي‭ ‬بأنه‭ ‬نال‭ ‬تقدير‭ ‬‮«‬ممتاز‮»‬،‭ ‬لأن‭ ‬السرحان‭ ‬مع‭ ‬الإنترنت‭ ‬جعله‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬المكتب‭ ‬بعد‭ ‬انصراف‭ ‬الآخرين‭.‬ الإنسان‭ ‬ملول‭ ‬بطبعه‭ ‬وغالبية‭ ‬الناس‭ ‬يميلون‭ ‬إلى‭ ‬تمضية‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬عمل‭ ‬مفيد،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنهم‭ ‬يرحبون‭ ‬بالأعباء‭ ‬الوظيفية‭ ‬التي‭ ‬تملأ‭ ‬وقتهم،‭ ‬ويضيقون‭ ‬بالجلوس‭ (‬تنابلة‭) ‬في‭ ‬المكاتب،‭ ‬ولمقدم‭ ‬البرامج‭ ‬الحوارية‭ ‬في‭ ‬التلفزيونات‭ ‬الأمريكية‭ ‬المشهور‭ ‬جوني‭ ‬كارسون‭ ‬مقولة‭ ‬جميلة‭: ‬لا‭ ‬تؤد‭ ‬عملاً‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬فيه‭ ‬متعة،‭ ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬سعيداً‭ ‬بعملك‭ ‬فإنك‭ ‬ستشعر‭ ‬بالرضا‭ ‬عن‭ ‬النفس‭ ‬وراحة‭ ‬البال،‭ ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬فوق‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬صحة‭ ‬جيدة‭ ‬فستكون‭ ‬قد‭ ‬حققت‭ ‬نجاحاً‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬يخطر‭ ‬قط‭ ‬على‭ ‬بالك،‭ ‬ولكن‭ ‬كارسون‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬الأمور‭ ‬عندنا‭ ‬ليست‭ ‬بتلك‭ ‬السهولة‭: ‬ليس‭ ‬من‭ ‬حقنا‭ ‬اختيار‭ ‬الوظائف‭ ‬التي‭ ‬نرغب‭ ‬فيها‭ ‬ونتقنها‭.. ‬بل‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬معظمنا‭ ‬حق‭ ‬اختيار‭ ‬شريك‭ ‬الحياة‭.‬

جعفر عباس

Exit mobile version