عشت حينا ليس بالقصير من الدهر، وأنا أحسب أنني سعيدة بدرجة “جيد”، لأن حياتي العائلية مستقرة، ولي من الذرية أربعة أكملوا تعليمهم العالي ودخلوا الحياة العملية، وليس من بينهم من هو جانح أو شاطح أو حتى جامح، وظلت حياتي المهنية مستقرة، حيث ظللت أشغل وظيفة يوفر لي العائد المالي منها ضروريات وبعض كماليات الحياة، ورغم أن كياني الصحي يقوم على بنية تحتية هشة نوعا ما، بسبب ظروف التنشئة، إلا أن صحتي وبصفة عامة طيبة، ولا أشكو إلا من انزلاق بسيط في فقرتين في الظهر، واضطراب موسمي في الجهاز الهضمي، وعانيت قبل عام من انسداد في الشريان التاجي. وحصلت على قطعة غيار (دعامة) أسهمت في استعادة الشريان لمعظم وظائفه بكفاءة معقولة، وإن كان ثمة ما يجعلني أحس بالتعاسة، فهو حال بلادي الذي ساءت فيه الأمور بدرجة أن قصر الرئاسة فيه صار مقرّاً لجزار ومجرم حرب ومتاجر بالبشر، يجيّر موارد البلاد الاقتصادية لصالح جيبه الخاص. جهد كبير من البحث والتقصي أجراه موقع ياهو الشهير على الأنترنت أفاد بأنه وكي تكون سعيدا لابد أن تملك خمسة ملايين دولار. مما يعني أن حياتي العائلية المستقرة، ونجاح عيالي، ووظيفتي التي تدر علي راتبا طيبا، وعدم معاناتي من خلل صحي يشكل خطرا آنيا على حياتي، كلها بلا قيمة في نظر ياهو ومن استطلعت ياهو آراءهم، ثم صدر تقرير مؤشر السعادة في العالم الذي تصدره شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، فإذا بفنلندا تتصدر القائمة وتليها الدنمارك وسويسرا، وخمس دول أخرى من شمال أوروبا. ولكن هذا التقرير أكد لي أنني تعيس لسبب غير افتقاري لخمسة ملايين من الدولارات، وهو انتمائي إلى بلد (السودان) ظل أهله يجمعون في استطلاعات الرأي طوال السنوات العشر الماضية أنهم أتعس شعوب الأرض؛ وتكرمت أفغانستان مشكورة بإزاحة السودان من المركز الأخير في مؤشر السعادة، فإذا بلبنان يختار مجاورة الأفغان في قاع المؤشر، وسبحان الله فالليبيون الذين ظلوا يعيشون في مطحنة حروب ضروسة منذ عام 2011، ولم ينعموا منذ وقتها بحكومة متوافق عليها قالوا إنهم أسعد من المصريين والأتراك والتونسيين والمغربيين والجزائريين والأردنيين، وطبعا وحتما ولأسباب معلومة فهم أسعد من السوريين واليمنيين والفلسطينيين (سوريا كانت خارج التصنيف تماما). (سأظل أتساءل المرة تلو المرة: ما سر البؤس الذي يلازم البلدان التي تنتهي أسماؤها بالألف والنون: السودان ولبنان وأفغانستان والشيشان وتركمانستان وطاجكستان وأوزبكستان وباكستان، ثم أنظر اسم أسوأ بلدان أوروبا حالا: اليونان). إن كان ثمة ما يجعلني أحس بالتعاسة، فهو حال بلادي الذي ساءت فيه الأمور بدرجة أن قصر الرئاسة فيه صار مقرّاً لجزار ومجرم حرب ومتاجر بالبشر، يجيّر موارد البلاد الاقتصادية لصالح جيبه الخاص. جاء ترتيب إسرائيل في المرتبة التاسعة في مؤشر السعادة للعام الجاري، ولا مجال لموال الكيل بمكيالين الذي نردده كلما شعرنا بالغبن أو عدم الإنصاف، فأهل إسرائيل هم من قالوا إنهم سعداء وراضون عن أحوالهم العامة، من حيث دخل الفرد والحريات العامة وانخفاض معدلات الجريمة وتوفر الرعاية الصحية إلخ، وأن يكون كل ذلك قد تحقق على حساب أهل الأرض الحقيقيين، ليس بذي أهمية فيما يخص الدعائم التي يقوم عليها تقرير مؤشر السعادة. وكما كان متوقعا فقد لعب موقف مختلف الحكومات من جائحة كورونا، فيما يلي توفير اللقاحات المضادة للفيروس وتوفير الرعاية للمصابين دورا كبيرا في تحديد اتجاهات الرأي بإزاء مؤشرات السعادة خلال عامي 2021 و2022، ولهذا جاءت الأصوات معبرة عن الغصب والإحساس بالتعرض للإهمال من قبل الحكومات في بلدان مثل لبنان وناميبيا وتشاد ومصر وموريتانيا ومدغشقر وزامبيا وغيرها، مما هوى بترتيبها الى القاع، ففي السودان مثلا لم يحظ أكثر من 3% من اجمالي السكان بلقاح الكورونا، بينما وعلى ذمة تقرير هيئة الصحة العالمية ليوم 23 آذار/ مارس الجاري كانت قطر في صدارة قائمة الدول التي نجحت في تقديم الطعوم ل90% من السكان. تقرير العام الجاري لمؤشر السعادة حوى قائمة الدول التي لا تنصح وكالات السفر الدولية بزيارتها، وفي طليعتها أفغانستان، وتليها أفريقيا الوسطى فالعراق فليبيا (التي يحسب أهلها أنهم أسعد من سكان 16 دولة عربية أخرى)، فمالي فالصومال فجنوب السودان فسوريا فاليمن. وليس مستغربا أن يكون السودان خارج هذه القائمة، أي خارج التصنيف تماما، لأنه ومنذ أن استولى عبد الفتاح البرهان بمساعدة مليشيات ذات سجل إجرامي مفضوح على السلطة، لم يعد السودان آمنا حتى لمواطنيه، فالاعتداء على الأفراد والممتلكات بل وحتى الأعراض، صار ممارسة يومية لعسكر منحهم البرهان حصانة ضد المساءلة القانونية.
جعفر عباس