احتفظ مما صورت من دار الوثائق القومية بخبر من مراسل الميدان بالمحيربا (١٦ نوفمبر ١٩٥٦) لما بدا لي من غرابته. قال الخبر:
أضربت نساء (شعب) البرنو بالمحيريبا الجزيرة احتجاجاً على سلوك رجالهن نحوهن. وقالن إن المسؤولية المنزلية كلها إلى عاتق المرأة حتى المصاريف المنزلية ولا يخصص الرجل أي شيء من دخله لمصاريف المنزل. ولكنه يخدم ويكسب ليتزوج مرة أخرى. وقبل أن تضرب النساء أخبرن أزواجهن وأوضحن مطالبهن.
وطرأ لي الخبر وأنا أقرأ مؤخراً عن استثمار النساء مواردهن كإناث، كنوع، للاحتجاج السياسي.
فنشرت مجلة “فورين بوليسي” مقالاً عنوانه “ثأر البطريقية-الذكورية: لماذا يخشى الأوتوقراطيون النساء؟” (مارس-إبريل ٢٠٢٢) تطرقت فيه لنضال النساء بمثل هذه الموارد ضد الأوتوقراط في الحكم والبيت. فتوقفتُ عند تنويه المقال بإبداع النساء، من واقع نوعهن، في تكتيكاتهن للنضال ضد الطغيان. فتجدهن استثمرن خصيصة أنثوية لهن بسير نساء ماينمار في كامل زينة ملكات الجمال لاسترداد الديمقراطية لبلدهن في ٢٠٢١. وكربات بيت أطعمت النساء في الهند المزارعين الذين اعتصموا بلواريهم احتجاجاً على إجراءات غليظة بحقهم من حكومة الهند في ٢٠٢٠ و٢٠٢١. بل تعرت النساء في كينيا ونيجريا في تظاهرات قصدن بها إفحام خصومهن في الدولة. وتجد من أردن إخجال الشرطة دون عنفها. فالحبوبات الجزائريات في ٢٠١٩ طلبن من رجال الشرطة أن ينصرفوا إلى بيوتهم وإلا بلغن سوء أدبهم لأمهاتهم.
وذكر المقال نضال كنداكات السودان في ٢٠١٩ بالشبكة التي على النت التي سعت عضواتها إلى إخجال الشرطة السرية. فكشفن فيها إخوانهن، وبني عمومتهم، والخؤولة كأفراد في القوى الخاصة التي ترهب الثوار ليكفوا.
واتبعت النساء أشكالاً من المقاطعة من موارد خصيصتهن النوعية خدمة للحراك الجماهيري. وتوقف المقال عند كلمة “مقاطعة” في أصلها السياسي الإنجليزي: بويكوت (boycott). فالعبارة عائدة إلى يوم امتنعت نساء طباخات ومربيات وغسالات عن خدمة نبيل إنجليزي اسمه تشارلس بويكوت لأمر ما. وأدخلن كلمة لا أعرف أروج منها في قاموس السياسة في مثل أيامنا هذه.
وذكر المقال امتناع النساء عن مضاجعة أزواجهن في معرض احتجاجهن. فاحتججن على الحرب مهلكة الرجال ومرملة النساء. وأول احتجاج من هذا القبيل مما جاء في مسرحية للإغريقي أرسطوفين. وقال مقال المجلة إن إضراب النساء في المسرحية ربما كان من وحي الخيال إلا أن المؤلف لربما بناها على واقعة طرقت أذنه. ولكن هذا الإضراب عن الجماع مما دخلت فيه نساء من شعب إروكيوس الهندي الأحمر، ضمن مواقف أخرى، في القرن السابع عشر لينلن حق الاعتراض على قرارات الحرب التي يتخذها الرجال. ودخلت نساء ليبريا في أفريقيا في نفس نوع الإضراب في مطالبتهن بإنهاء الحرب الأهلية في بلدهن. كما أضربت نساء كولمبيا عن الجماع لإنهاء عنف العصابات الذي تأذت منه بلادهن.
لو لم يكن للميدان مراسل في المحيريبا لما بلغنا خبر هذا الإضراب التاريخي لنساء البرنو ضد الأزواج البطاريك. ولا نعلم إن شمل إضرابهن هجراناً في المضاجع أم اكتفين بتشميع المطبخ.
ومهما يكن من أمر نساء البرنو فواضح أن شبكة المراسلين، التي تلاشت فيما أعرف من صحفنا، هي نقل لنبض الناس، من تحت خاصة، وسيرتهم يخوضون في مناحي الدنيا. وطرأت لي هذه التغذية لثقافتنا الصحفية خلال تعليقات كثير من أصدقائي على مقالاتي عن الإدارة الأهلية. فوجدت من يشيد بها وبوظائفها من ذكر عزومة له في دار أحد رجالاتها، أو من إداري عمل في جهاتها، أو من المرويات عنهم: “شيخ اب سن قال، شيخ بابو نمر قال” مما يعرف بالحكائيات (anecdotes) التي لا تقدم ولا تؤخر. ولا تجد من عرف عن الإدارة الأهلية ممن وطأتهم بميسمها. وبرعت “الميدان” القديمة في مثل خبر هؤلاء المتضررين. وبلا إطالة أنقل لكم هذا الخبر عن جريدة الميدان (١٣ أكتوبر ١٩٥٨) عن مراسل من الأبيض:
طلب ناظر البديرية من أهله بناء بيوت حكومية وحفر آبار بدون أجر. وفعلوا. ولكنهم رفضوا أمراً بتفكيك هذه البيوت وإعادة بنائها في موضع آخر. وعرضوهم أمام محكمة الناظر وحكمت عليهم بغرامات بلغت 15 جنيهاً. “ويولي حزب الجبهة هذا الأمر اهتماماً بالغاً وهو الذي كان له الفضل في إيقاف عمل السخرة بجبال النوبة وسيقوم بحملة لا إزالة هذا العمل المخزي من جميع أرجاء كردفان. هذا وقد رفع هؤلاء المواطنون استئنافاً ضد الحكم الذي صدر ضدهم.”
وتقول لي الأبيض ليست موسكو!
وليعرف القارئ في الختام أن ناظر البديرية لم يظلم، ولكن قانون الإدارة الأهلية الذي وضعه الإنجليز الميامين ظلم بجعله السخرة فريضة على الناس من الحكومة بواسطة “رجالات” الإدارة الأهلية. وسنعرض لموضوع السخرة والإنجليز والإدارة الأهلية قريباً. ومن طلب العاجلة فعليه بقراءة فصلي “الشايقي سخروه” في كتاب “. . . ومنصور خالد”
إعلان وصُلحة.
د. عبدالله علي إبراهيم
صحيفة التحرير