جعفر عباس

جعفر عباس يكتب : يصرف النقود والكلام

ظللت‭ ‬لسنوات‭ ‬طويلة‭ ‬أضع‭ ‬ما‭ ‬أكسبه‭ ‬من‭ ‬نقود‭ ‬تحت‭ ‬المخدة‭ ‬أو‭ ‬تحت‭ ‬قمصاني‭ ‬في‭ ‬خزانة‭ ‬الملابس،‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أثق‭ ‬في‭ ‬البنوك‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬‮«‬أعرف‮»‬‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬أهلا‭ ‬للثقة،‭ ‬ثم‭ ‬أجبرتني‭ ‬جهة‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬فتح‭ ‬حساب‭ ‬بنكي،‭ ‬وصرت‭ ‬‮«‬متحضرا‮»‬‭ ‬بعض‭ ‬الشيء‭ ‬واستخدم‭ ‬جهاز‭ ‬الصرف‭ ‬الآلي‭ ‬لسحب‭ ‬النقود،‭ ‬ولكن‭ ‬والى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬ان‭ ‬أثق‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الجهاز‭ ‬وأودع‭ ‬مبلغا‭ ‬من‭ ‬خلاله،‭ ‬فمن‭ ‬يضمن‭ ‬لي‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يشفط‭ ‬نقودي‭ ‬ثم‭ ‬ينكر‭ ‬ذلك؟ تذكرت‭ ‬حكاية‭ ‬رجل‭ ‬طاعن‭ ‬في‭ ‬السن‭ ‬حشر‭ ‬بطاقة‭ ‬الصرف‭ ‬الآلي‭ ‬في‭ ‬الجهاز،‭ ‬وحدد‭ ‬المبلغ‭ ‬الذي‭ ‬يريد،‭ ‬وخرج‭ ‬المبلغ‭ ‬من‭ ‬الفتحة‭ ‬المخصصة‭ ‬لتلك‭ ‬الغاية‭ ‬من‭ ‬الجهاز،‭ ‬وأمضى‭ ‬شيخنا‭ ‬وقتا‭ ‬طويلا‭ ‬في‭ ‬سحب‭ ‬البطاقة‭ ‬ثم‭ ‬فتح‭ ‬محفظته‭ ‬لإعادتها‭ ‬في‭ ‬الموضع‭ ‬المخصص‭ ‬لها،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الجهاز‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬شفط‭ ‬النقود‭ ‬وابتلعها‭ ‬كما‭ ‬يقضي‭ ‬تصميمه‭ ‬وبرمجته‭ ‬بذلك،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تمدد‭ ‬أمام‭ ‬الجهاز‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬خروج‭ ‬نقوده‭ ‬مجددا،‭ ‬وشالته‭ ‬نومة،‭ ‬وكلما‭ ‬حاول‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬استخدام‭ ‬الجهاز‭ ‬صرفهم‭ ‬عنه،‭ ‬وظل‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬ان‭ ‬بلغ‭ ‬الأمر‭ ‬سلطات‭ ‬البنك،‭ ‬فبعثت‭ ‬مندوبا‭ ‬توصل‭ ‬مع‭ ‬الرجل‭ ‬إلى‭ ‬تسوية‭ ‬مقنعة،‭ ‬وطمأنه‭ ‬بأن‭ ‬المبلغ‭ ‬الذي‭ ‬تعرض‭ ‬للشفط‭ ‬لن‭ ‬يُخصم‭ ‬من‭ ‬حسابه‭ ‬المصرفي‭.‬ وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬صرت‭ ‬مرغما‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬ببطاقة‭ ‬الصراف‭ ‬الآلي‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬وأقيم‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬ولكنني‭ ‬لم‭ ‬استخدمها‭ ‬قط‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة،‭ ‬وكان‭ ‬موظفو‭ ‬فرع‭ ‬البنك‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬بيتي،‭ ‬قد‭ ‬ألِفوا‭ ‬وجهي‭ ‬فسألوني‭ ‬لماذا‭ ‬أزور‭ ‬البنك‭ ‬نحو‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬لسحب‭ ‬مبالغ‭ ‬هزيلة،‭ ‬فشرحت‭ ‬لهم‭ ‬إنني‭ ‬لا‭ ‬أحب‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الآلات‭ ‬الصماء،‭ ‬وبي‭ ‬شك‭ ‬بأن‭ ‬جهاز‭ ‬الصراف‭ ‬الآلي‭ ‬قد‭ ‬يعطيني‭ ‬خمسين‭ ‬جنيها‭ ‬ويسجل‭ ‬في‭ ‬حسابي‭ ‬أنني‭ ‬سحبت‭ ‬خمسمائة،‭ ‬وأعداء‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬مثلي‭ ‬ومثل‭ ‬ذلك‭ ‬الكهل‭ ‬الوارد‭ ‬ذكره‭ ‬أعلاه‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬تعقيدات‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬أجهزة‭ ‬الصرف‭ ‬الآلي،‭ ‬فقط‭ ‬طرحت‭ ‬شركة‭ ‬آي‭ ‬سي‭ ‬إن‭ ‬أجهزة‭ ‬ناطقة‭ ‬تتعرف‭ ‬عليك‭ ‬بمجرد‭ ‬إدخال‭ ‬رقمك‭ ‬السري،‭ ‬بل،‭ ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬مثلي‭ ‬تسحب‭ ‬مبلغاً‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬دائم،‭ ‬فإن‭ ‬الجهاز‭ ‬لا‭ ‬يطلب‭ ‬منك‭ ‬تحديد‭ ‬المبلغ‭ ‬المراد‭ ‬سحبه،‭ ‬بل‭ ‬يقدمه‭ ‬لك‭ ‬فور‭ ‬التحقق‭ ‬من‭ ‬صحة‭ ‬رقمك،‭ ‬ويعمل‭ ‬الجهاز‭ ‬كالتالي‭: ‬مثلا‭ – ‬أدخلت‭ ‬رقمي‭ ‬السري‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬هلا‭ ‬يا‭ ‬أبو‭ ‬الجعافر‭ ‬شلونك‭ ‬وشلون‭ ‬أم‭ ‬الجعافر؟‭ ‬عساها‭ ‬صابرة‭ ‬عليك؟‭ ‬بالمناسبة‭ ‬‮«‬عيد‭ ‬ميلاد‮»‬‭ ‬ولدك‭ ‬بعد‭ ‬أسبوع،‭ ‬لا‭ ‬تفشله‭ ‬قدام‭ ‬الربع‭ ‬وجهز‭ ‬له‭ ‬هدية‭ ‬عليها‭ ‬القيمة‭! ‬ولعلمك‭ ‬مباراة‭ ‬برشلونة‭ ‬ضد‭ ‬برشمونا‭ ‬تأجلت،‭ ‬وبالمناسبة‭ ‬يوم‭ ‬الإثنين‭ ‬الجاي‭ ‬عطلة‭ ‬عامة‭ ‬وأحسن‭ ‬لك‭ ‬تسحب‭ ‬فلوس‭ ‬زيادة‭!!‬‮»‬‭.‬ وهكذا‭ ‬فإن‭ ‬الجهاز‭ ‬يكلمك‭ ‬في‭ ‬شؤونك‭ ‬الخاصة‭ ‬ويعطيك‭ ‬أخبار‭ ‬مباريات‭ ‬الكرة‭ ‬وأحوال‭ ‬الطقس‭ ‬المتوقعة‭. ‬وتقول‭ ‬الشركة‭ ‬المنتجة‭ ‬للجهاز‭ ‬الحشري‭ ‬الثرثار‭ ‬إنه‭ ‬يوفر‭ ‬عليك‭ ‬ثلث‭ ‬الوقت‭ ‬اللازم‭ ‬لسحب‭ ‬النقود‭!! ‬جهاز‭ ‬يسولف‭ ‬معي‭ ‬ويتكلم‭ ‬في‭ ‬الفاضي‭ ‬والمليان،‭ ‬كيف‭ ‬يوفر‭ ‬علي‭ ‬الوقت؟‭ ‬هذا‭ ‬الجهاز‭ ‬سيتسبب‭ ‬في‭ ‬الطلاق‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬البنوك،‭ ‬لأنني‭ ‬أخاف‭ ‬من‭ ‬الأجهزة‭ ‬التي‭ ‬تتكلم،‭ ‬ولن‭ ‬أنسى‭ ‬ما‭ ‬حييت‭ ‬فضيحتي‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬في‭ ‬السبعينات،‭ ‬عندما‭ ‬وصلت‭ ‬المدينة‭ ‬ولم‭ ‬أجد‭ ‬أحداً‭ ‬في‭ ‬استقبالي‭ ‬واستخدمت‭ ‬هاتفاً‭ ‬عمومياً‭ ‬لإجراء‭ ‬اتصال‭ ‬بالمعهد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مقرراً‭ ‬أن‭ ‬ألتحق‭ ‬به،.

وأدرت‭ ‬الأرقام‭ ‬الصحيحة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أحملها‭ ‬معي‭ ‬من‭ ‬السودان،‭ ‬ولأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬اتصال‭ ‬دولي‭ ‬مباشر‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬دولة‭ ‬عربية،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الاتصال‭ ‬يتم‭ ‬عبر‭ ‬البدالات،‭ ‬تتصل‭ ‬بموظف‭ ‬معين‭ ‬وتخبره‭ ‬أنك‭ ‬تريد‭ ‬مكالمة‭ ‬الجهة‭ ‬الفلانية‭ ‬وتضع‭ ‬السماعة‭ ‬ليتصل‭ ‬ذلك‭ ‬الموظف‭ ‬بك‭ ‬لاحقاً‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يتصل‭.. ‬وبالطبع‭ ‬فقد‭ ‬أجريت‭ ‬المكالمة‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬لندن‭ ‬مستخدماً‭ ‬الرمز‭ ‬الدولي‭ ‬لبريطانيا‭ ‬ورمز‭ ‬لندن،‭ ‬ورن‭ ‬التلفون‭ ‬على‭ ‬الجهة‭ ‬الأخرى‭ ‬وجاءني‭ ‬صوت‭ ‬نسائي‭ ‬فشرحت‭ ‬لها‭ ‬أنني‭ ‬طالب‭ ‬جديد‭ ‬و‭…‬،‭ ‬ولكنها‭ ‬تجاهلتني‭ ‬وواصلت‭ ‬الحديث،‭.. ‬قلت‭ ‬لها‭ ‬مجدداً‭: ‬الله‭ ‬يخليكي‭ ‬أنا‭ ‬طالب‭ ‬جديد‭ ‬ومزنوق‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬شرق‭ ‬من‭ ‬غرب،‭.

ولكنها‭ ‬قالت‭ ‬كلاماً‭ ‬ما‭ ‬معناه‭ ‬إنني‭ ‬‮«‬غلطان‮»‬‭.. ‬باختصار‭ ‬فقدت‭ ‬أعصابي،‭ ‬وشتمتها‭ ‬‮«‬بالإنجليزي‮»‬‭ ‬ولكنها‭ ‬وبكل‭ ‬برود‭ ‬واصلت‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أنني‭ ‬غلطان‭ ‬لسبب‭ ‬بديهي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الصوت‭ ‬تسجيلاً‭ ‬ينبهني‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬استخدام‭ ‬الرمز‭ ‬الدولي‭ ‬والمحلي‭ ‬عند‭ ‬الاتصال‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬لندن‭. ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬فإنني‭ ‬أقاطع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الذين‭ ‬لديهم‭ ‬هواتف‭ ‬وقحة‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬لك‭: ‬أنا‭ ‬غير‭ ‬موجود‭.. ‬يرجى‭ ‬ترك‭ ‬رسالة‭!! ‬عنَّك‭ ‬ما‭ ‬رديت‭ ‬يا‭ ‬سخيف‭.‬

جعفر عباس