“الزواج التعيس لا ينقصه الحب بل تنقصه الصداقة”.. فريدريش نيتشه..!
لاحظت “رقية” شرود زوجها الدائم ورغبته الأكيدة في أن يخلو إلى نفسه بعد عودته من العمل، كما لاحظت أيضاً تراجع حماسته للإنفاق على كماليات كانت هي نفسها تحاول إقناعه بأنها غير ضرورية. حتى مستلزمات البيت الأساسية التي كانت تكفي وتفيض بعد انقضاء الشهر تقلصت عبواتها الكبيرة إلى أحجام متوسطة تنتمي إلى أسماء تجارية أرخص ثمناً وأقل جودة..!
حاولت أن تقنع نفسها بأن ارتفاع أسعار مواد البناء وعدم اكتمال “تشطيب” المنزل الجديد الذي يسافر زوجها إلى السودان كل بضعة أشهر للإشراف على بنائه يحتاج إلى المزيد من الادخار، لكنها لم تقتنع. حتى علبة الشكولاتة الفاخرة التي اعتاد أن يدللها بها في أمسيات آخر الأسبوع اختفت في ظروف غامضة وحل محلها ذلك العبوس الدائم الذي بات يقض مضجعها. ليست هذه طباع “الفاضل” – كان هذا رأي بناته أيضاً – وهي كانت تخشى أن تستمر هذه الحال، لكنها كانت تخشى أكثر أن تبادر بالسؤال فتفجع بالإجابة التي تبرع بها حدسها الأنثوي منذ أول ليلة..!
في ذلك اليوم المشهود وضعت “رقية” صينية شاي المغرب “المقنن” كما يحبه زوجها على الطاولة الكبيرة أمام التلفاز، لكنه لم يرفع رأسه عن شاشة هاتفه الجوال، حتى رائحة الزلابية الشهية الساخنة لم تفلح في إقناعه بأن يمد يده إلى صحنها الكبير. تسارعت ضربات قلب “رقية”، لا بأس في أن لا يكترث بنقوش الحناء الجديدة على يديها، لا بأس في أن لا يفتح الله عليه بكلمة إطراء يكافئها بها على اجتهادها في اختيار ثوبها المسائي الجديد، لكن أن يعرض “الفاضل” عن صحن الزلابية التي كان يجهز عليها بأكملها قبل أن تبرد، أن يكتفي ببضع رشفات فقط من كوب الشاي “المقنن”، تلك هي العلامات الفارقة التي تدل على قرب سماعها لخبر برتبة مصيبة:
ــ أنا بكرة مسافر العمرة..!
ــ إنت كان عرست ما تقول عرست..؟!ـ
ــ ………..!
استسلم “الفاضل” لمجلس التحقيق الذي عقدته “رقية”، وأخبرها صراحة أن المشكلة ليست في زواجه قبل أكثر من عام من جارتهم، الموظفة المرموقة والعانس الحسناء، التي كانت تطارده حتى أعلن موافقته على الزواج منها سراً، كما وأن المشكلة أيضاً ليست في كون زوجته الثانية قد وضعت مولوداً ذكراً. لكن المشكلة هي أنها تقيم الآن مع طفلها حديث الولادة في بيت خالها بمدينة جدة التي غادرت الخرطوم إليها دون علمه. وهو قد أصبح بذلك أمام خيارين، فإما أن يوافق على “توفيق وضعها” حتى تتمكن من الإقامة معه في السعودية، وإما أن تترك له الطفل وتعود كما أخبرته بلهجةٍ تنذر بالوعيد..!
أما الحل الذي تفتق عنه ذهن أم بناته الخمس فقد كان مدهشاً بحق. رافقت “رقية” زوجها في رحلته التعسة إلى مدينة جدة، وظلت صامتة طوال الطريق من مدينة الرياض إلى مدينة جدة. وهناك في بيت خال ضرتها جلست “رقية” برباطة جأش أخافت زوجها الذي كان يعامل الأخرى بلؤم شديد بوازع من خوفه ذاك. احتد النقاش بين الفاضل وزوجته الثانية وتحول إلى شجار انتهى بأن طلبت هي أن يطلقها وأن يأخذ الرضيع ولا بأس في أن يذهبا – بعد ذلك – معاً إلى أقرب ستين داهية..!
هنا – وهنا فقط – رفعت “رقية” رأسها لأول مرة وهي تسأل ضرتها عن هامش الجدية في طلب الطلاق والتنازل عن الطفل. وقبل أن ينتهي الصمت الثقيل الذي أعقب تأكيد الإجابة حملت “رقية” رضيع ضرتها واختطفت زجاجة حليبه قبل أن تلتفت إليها قائلةً في هدوءٍ قاتل:
ــ “سلام عليكم”..!
بعد مرور عام على ذلك اليوم التاريخي وضعت “رقية” صينية الشاي المقنن وصحن الزلابية أمام “الفاضل” الذي كان يلاعب الصغير بمزاج رائق. ابتسمت “رقية” وهي تفكر كيف قايضت بعض كبريائها بزوجٍ تائب، وولدٍ ذكر، وأخ ٍأصغر سيكون سنداً لبناتها الخمس..!
صحيفة الصيحة