لم ولن يشبع الإسلامويون من السلطة. فكثيراً ما ردّدوا في مجالسهم حديثاً ضعيفاً: (إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)! سعوا للمشاركة في السلطة بكل سبيل، لا .. بل والاستيلاء عليها بالقوة ، ما وسعتهم الحيلة. فحين فشلت الجبهة الوطنية عبر جناحها العسكري بقيادة محمد نور سعد في الإستيلاء على السلطة عبر ما عرف بهجوم المرتزقة (تشويهاً لصورتهم عند الرأي العام) وحدث لاحقاً ما عرف بالمصالحة الوطنية مع نظام جعفر النميري في يوليو 1977م ، كان الإخوان المسلمون (الجبهة القومية الإسلامية آنذاك) هم الشريك الأصل الذي كتب لنظام نميري العسكري استمراريته تحت مسمى حكم الشريعة. ذاق السودانيون يومها الويل وسهر الليل في تطبيق قوانين سبتمبر الهمجية، والتي لا تمت لسماحة الإسلام بصلة. اخترقوا القوات المسلحة آنذاك عبر فرع التوجيه المعنوي. حتى إنّ البعض أطلقوا على صحيفة (القوات المسلحة) الناطقة باسم الجيش – إبان الحقبة القصيرة لديموقراطية انتفاضة ابريل 1985م – أطلقوا عليها إسم (الراية 2) لكثرة ما طفحت به صفحاتها من نقل لأنشطة الجبهة الإسلامية وزعيمها آنذاك الدكتور حسن الترابي. لذا لم يكن مستغرباً انقضاضهم على الديموقراطية عبر انقلاب عسكري في 30 يونيو 1989م وانفرادهم بالحكم لثلاثين سنة عجاف. دمروا فيها مرافق الدولة وبنيتها التحتية.
ومهما قيل من ضعف الإدارة لدى الحكومات الوطنية السابقة – إلا إن تلك الحكومات حافظت على منظومة الدولة وأضافت إليها . أهم من ذلك كله حافظت تلك الحكومات (عسكرية ومدنية) – بكل ضعف أدائها وتخبطها – حافظت على وحدة تراب الوطن. حتى إذا جاء حكم الإسلامويين تحت مسمى “الإنقاذ”، أشعل نيران الحرب في الجنوب بصورة لم يسبق لها مثيل، جاعلاً إياها حرباً دينية مقدسة، وجهاداً في سبيل الله، مما أدّى لفصل جنوب السودان ، واندلاع حرب الإبادة في دار فور وفي جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. والباقي تاريخ لا داع !لإضاعة الوقت في سرد تفاصيله المؤلمة
نقول إنّ سعار السلطة لم تتصف به فئة سياسية في تاريخ السودان الحديث مثلما اتصف به الأخوان المسلمون بتسمياتهم المختلفة. فما إن اندلعت ثورة 19 ديسمبر 2018م ، وأطيح بالدكتاتور عمر البشير ونظامه حتى هرع الإخوان المسلمون عبر مجلس حفظ النظام (الجنرال البرهان وزمرته) للمشاركة في السلطة الجديدة تحت ذريعة أنهم سيكونون حماة لثورة البلاد. وأنهم حريصون على قيام الدولة المدنية التي رفع رايتها الشارع السوداني ولا تزال مرفوعة. ومثلما كان دأبهم في السابق، ما إن وجد ممثلوهم العسكريون فرصة الجلوس على كراسي السلطة حتى سعوا بكل ما أتوا من خبث لخراب سفينة المرحلة الإنتقالية ودق الأسافين لها في كل اتجاه. كانوا يعطون الدكتور حمدوك رئيس الوزراء وحاضته السياسية (قحت) وعداً بالصباح لينقضوه مساء نفس اليوم. كان دورهم مع شركائهم المدنيين تمثييل سيادة البلاد ، لكنهم تغولوا على عمل السلطة التنفيذية. لم ينصرفوا لحفظ الأمن في أي شبر من البلاد كما نصت عليه الوثيقة الدستورية. بل كانوا وما يزالون الي اليوم الذراع التي تحرك أفاعي الأمن الشعبي وكتائب الظل لتجعل من إستقرار البلاد حلماً بعيد المنال. حتى إذا يئسوا من القضاء على حلم السودانيين بقيام الدولة المدنية، قاموا بانقلابهم الفاشل منذ لحظة إعلانه.
لم تعد بادرة بالويل والثبور على منظومة الإسلامويين – الصاحية والنائمة على خزائن ومقدرات البلاد – ومعهم فلول الإنتهازيين من حركات مسلحة وغيرها، نقول بأنه لم تعد بادرة بالويل والثبور عليهم مثلما جنى عليهم إنقلابهم الشؤم. حسبوا أنّ عجلة التاريخ ستدور إلى الوراء وسيحكمون قبضتهم على البلاد مرة أخرى. مشكلة إخوان السودان ومن يقفون معهم في الداخل وفي الخارج أنهم لا يقرأون تاريخ ثورات عصرنا جيداً. إنّ من يقرأ فقه الثورات يعرف أنّ ثورة 19 ديسمبر السودانية منعطف جديد في تاريخ الثورات الحديثة في العالم. ثورة امتلكت ثلاثة مقومات يصعب أن يدخلها الوهن أو تقضي عليها المؤامرات. أولها: أنها ثورة يقودها الشباب ، الذي تقول آخر إحصائيات الأمم المتحدة بأنهم يمثلون 64 % من تعداد سكان هذا البلد شبه القارة. ثانيها : هي ثورة وعي ، يعرف شارعها المنتفض عبر ثلاث سنوات ونيف ماذا يريد باندلاع هذه الثورة. ثالثها : وهو ما لم يحدث إلا في ثورة المهاتما غاندي، سلميتها التي اتصفت بها تظاهرات الشارع الضخمة والمستمرة.
حسب البعض أنّ القوة المدججة بالسلاح ستكتب لها الغلبة على الشارع الأعزل إلا من إيمان الثوار بوطن يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات. نحن على مرمى أيام قلائل من 25 مارس حيث يطوي إنقلاب البرهان خمسة أشهر بائسات ، لم تعد على الجنرالات وأعوانهم من الفلول والحركات المسلحة التي دعمت الإنقلاب غير الخيبة والندم. خمسة أشهر والتظاهرات المليونية تزداد حمية وأواراً. بينما عجز عسكر مجلس حفظ نظام الإخوان المسلمين عن إيقاف طوفان الشارع الثائر رغم استخدامهم لأبشع قنابل الغاز المسيل للدموع وللذخيرة الحية والإعتقالات العشوائية للثوار. ولما يئسوا من وقف سيل الشارع ، عمدوا إلى حرب مفتوحة مع الشعب السوداني: رجال بكامل زيهم العسكري.. يقتحمون البيوت والسيارات والمحلات التجارية ليخطفوا (عينك يا تاجر وتحت فوهة السلاح) ما يحمله المواطن من مال وهاتف و…..غذاء !! بل العار الأكبر هو سلاح اغتصاب النساء متى وقعت يدهم على فتاة – في الشارع أو داخل حافلة. وكذلك هجوم العسكر في زيهم العسكري (قوات مسلحة – شرطة – جنجويد إلخ…) على المخازن والأسواق. وآخر فضائحهم كسر أبواب بنك الدم. وكذلك مركز اقتحام نيفاشا التجاري الضخم ونهب ما به. يحدث ذلك كله والبرهان وزمرته يتفرجون. الغالب أنهم ينتظرون إنفلات الشارع ليكون هو العذر بأنهم إنما أعادوا عجلة الدولة العسكرية كاملة خوفاً على البلاد والعباد من مدنية هي في زعمهم مجرد وهم!
لا تنتظروا حلاً مما تبقى من القوات المسلحة والشرطة – فما عادت منذ أمد – سوى الجناح العسكري لتنظيم الأخوان المسلمين بكل مسمياته. إنها مليشيا مثل المليشيات التي وقع معها حميدتي والكباشي إتفاق جوبا المعيب!!
أختم مقالي بالإشارة إلى المؤتمر الصحفي للجيش أمس الأول في أكاديمية جعفر النميري، والذي حاول فيه جنرالات الأخوان المسلمين (بيع الماء في حارة السقايين) !! مايكرفونات وهيصة والضابط الكبير يقول لنا: بأن القوات المسلحة لا ترغب في الحكم – (لا بالله؟؟؟) وأنهم يدعون السودانيين بمختلف طوائفهم واحزابهم إلى (إجماع وطني) و (دون إقصاء لأحد) حتى ننقذ هذه البلاد من الظرف الحالي الصعب!!
وختاماً.. أقول للجنرال الذي يدعونا لنصدق زبد حديثه أمس أمام المايكرفونات، أقول له ما قاله شاعر العامية المصرية الشهير عبد الرحمن الأبنودي:
( يا سيدي الضابط إنت كذّاب.. والرسلك كمان كذّاب!!)
ويا كيزان السجم: لن تقهروا إرادة شعبنا. وسنقيم الدولة المدنية ، جوهرة تاج السودان الجديد
فضيلي جمّاع
صحيفة التحرير