أصبح القمح سلعة سياسية في السودان بعد أن تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من تغيير النمط الاستهلاكي للسودانيين من الذرة الرفيعة والدخن للقمح، وبعد أن أصبحت حكومة السودان تدعم استهلاك الخبز المصنّع منه. وأضحى التخلص من دعم رغيف الخبز المرهق للاقتصاد باهظ الثمن سياسياً. لهذا أصبح من الضروري التخلص من سيطرة وهيمنة القمح على اقتصاد البلاد.
ذكرنا في مقالنا يوم أمس على هذه المساحة أنه لابد من استراتيجية للخروج الآمن من سيطرة القمح على الاقتصاد، وإن أول خطوات الخروج الآمن هو ترتيب البديل للقمح ودقيقه.
إن البديل للقمح واستخداماته في السودان هو محصول الذرة الرفيعة والدخن اللذيْن يزرعان على نطاق واسع جداً في السهول الطينية في أواسط وجنوب السودان. تحتل الذرة الرفيعة الصدارة في قطاع الزراعة الآلية؛ إذ تغطي مساحتها حوالي 85% من المساحة المزروعة.
ويوجد نوع آخر من الزراعة في السهول الطينية الوسطى هي ما يطلق عليه الزراعة المطرية التقليدية،
وفيها تستخدم الآلات اليدوية فقط. وتقدر مساحة الزراعة التقليدية بحوالي 21 مليون فدان (تعادل تسعة ملايين هكتار تقريبا) وتوجد بشكل رئيس في الغرب والجنوب وبعض مناطق وسط السودان. وتعود أهمية هذا القطاع في الاقتصاد القومي لمساهمته بحوالي 90% من إنتاج الدخن و48% من الفول السوداني و28% من السمسم و11% من الذرة الرفيعة و100% من الصمغ العربي، بجانب محاصيل أخرى مثل الكركدي وحب البطيخ واللوبيا وبعض الخضروات. وتشكل تربية الحيوان جزءاً من هذا القطاع.
إن زراعة الذرة الرفيعة والدخن تستوعبان 75% من القوى العاملة في السودان، ويعيش عليها أكثر من 65% من سكان السودان؛ ولهذا السبب يجب السعي لأن تكون بديلاً عن القمح كغذاء رئيس لأهل السودان ومصدر دخل محترم لهم.
لكي تصبح الذرة الرفيعة بديلاً عن القمح لا بد من تطوير طرق وتقنيات لجعلها تقوم بكل ما يقوم به القمح، على سبيل المثال أن تكون هناك إمكانية صنع خبز بأشكال مختلفة منها يصلح للحشو كساندويتشات مثلاً، وأن يكون ممكناً صناعة الحلوى والبسكويت وغيرها منه. لقد كانت المعضلة أن نسبة الجلاتين في الذرة قليلة لهذا لم يكن في الإمكان صنع الخبز والأشكال الأخرى منها، ولكن قبل أقل من عشرة أعوام تم اكتشاف مادة زراعية تضاف للذرة فتجعلها صالحة لكل المهام التي يقوم بها دقيق القمح. وقد كنت شاهداً على تجربة صناعة الخبز والحلويات والبسكويت من الذرة دون إضافة أي نسبة من القمح، وكانت تجربة ناجحة جداً، مما دفع ولاية الخرطوم قبل خمسة أعوام للتعاقد مع شركة روسية لتوريد مخبز عملاق يقوم بتصنيع الخبز من الذرة بنسبة 100%. غير أن التصنيع والتوريد لم يتما.
على ضوء هذه المعلومات يبرز سؤال منطقي هو : لماذا لم تلجأ الحكومة للذرة الرفيعة والدخن كبديل للقمح، وتمزق بالتالي فاتورة استيراد القمح، وفاتورة دعم الخبز المصنوع منه؟ الإجابة على هذا السؤال لها قصة نرويها في المقال القادم إن أمد الله في الآجال.
د/ عادل عبد العزيز الفكي
adilalfaki@hotmail.com
اليوم التالي