مقصدنا هو الإستدلال بالمثُلات لبيان سلامة العقيدة من عثرات التعبُّد، وفي سيرة الذين سبقوا وقد تولوا أمر العباد وثار الناس عليهم خوارجاً – قالوا انهم كانوا – أم عباداً لله صالحين بدعاوى الحياد عن المسلك وعدم الحياد في سياسة أمر الناس، في سيرتهم خير مثال. فدعونا نتناول بحذر سيرة الخليفة الثالث عثمان بن عفان ثم نُسقطها بلا تشبيه على تجربة (الكيزان).
من الصعب أن نتهم روح الإسلام في نفس سيدنا عثمان، على الرغم من أن الثورة ضده كانت في تولية أقاربه على الأمصار وإغداقه عليهم أموال المسلمين. وقد اشار ابن تيمية للخطأ الإستراتيجي الذي وقع فيه سيدنا عثمان بالقول (أما عثمان فلم يكُن في قوة عمر وكمال عدله وزهده، فطمع فيه بعض الطامعين وتوسعوا في الدنيا ودخل بسبب أقاربه في الولايات والأموال أُموراً أُنكِرت عليه فتولَّد من ذلك رغبة الناس في الدنيا وضعف خوفهم من الله، ما أوجب الفتنة حتى القتل).
بُيِع عثمان خليفةً للمسلمين سنة ٢٣ هجرية وفي خلافته عيِّن أقرباءه ومنهم عمه الحكم بن ابي عباس، وهو الذي طرده الرسول الكريم من المدينة ومنهم الوليد بن عقبة أخاه لأمه الذي عيَّنه والياً على الكوفة، وقيل عن الوليد أنه كان يشرب حتى صلاة الفجر ويصلي بالناس اربعاً.. وكان تعيينه لأهله ما عدَّه الناس (ومنهم محمد شحرور في كتابه الدين والسلطة قراءة معاصرة للحاكمية) خروجاً عن المثال.. ويقصد الخروج عن الأنموذج من القوة والزهد والعدل ولم يكُن كمن سبقاه في ولاية أمر المسلمين أبابكر وعُمر عليهما من الله الجزاء والإحسان.
اما في عصرنا الحاضر، فقد حاول أُناس أن يعيدوا للدين مجده، فأجتمعوا على مشروعٍ تقلَّب اسمه مع مقتضاه فأسموه تارةً جبهةً إسلامةً قوميةً أرادوها لتتصدى لجباه كانت لها من يقف خلفها ثم أرادوها من بعد ذلك حركةً تتسع فِكرةً وبسطةً عريضةً ثم فتحوها مؤتمراً وطنياً جامعاً يستوعب كافة الطوائف والمعتقدات وحازوا بذلك غلبةً مكنتهم من تطبيق ما نهضوا لأجله على الأرض واقعاً مُعاش.
مشروعهم ذاك مدَّ الله له مدَّةً فأمتلك زمام الدولة وحرَّك ساكنها بآلياتها ومواردها خدمةً لأهداف تمكين الدين وتولى أنصار المشروع المقاليد كافة ولم يرى بعضهم بأساً في أخذ المال من الخزينة العامة ليتقوُّا به بدلاً من أن يُحملوا على التغشف والبُعد عن مواطن التهم والريب، ولما أرادها أصحاب البُعد العميق والفِكر الوثاب من بينهم توالياً تنافسياً مفتوحاً، ظهر أنصار عثمان الذين قالوا (لم نكن لنخلع سربالاً سربلنا الله إياه)!
الغريب أن ركائز تمكينهم كانت هي معاول هدم مشروعهم، فبالدعوة إلى الله سادوا وصار المجتمع المتديِّن بطبعه داعماً لهم ردحاً ليس بالهين، ثم وجد الذين ناصبوا مشروعهم العداء ضالتهم في دعواهم إلى الله لما التمسوا في بعض السلوكات ما هو أشبه بالمُتاجرة بالدين ولم يكتف الحانقون بذم أهل المشروع بل تمادوا في ذم الدين نفسه.
مثلما حاصر الناس عثماناً في داره وطالبوه إما بالتنحي أو القتل فرفض في بادئ الأمر ثم استشار بعد أن بدأت فكرة التنحي تراوده إلا أن من استشاره أشار عليه بالبقاء بحجة عدم سن سنة التنحي قائلاً (أفكلما سخط قوم على أميرهم خلعوه)؟ فكانت النتجة أن حاصروه وقتلوه.. ومثلما حاصر الناس عثمان، خرج أُناس على أصحاب المشورع الإسلامي السوداني بدعاوى تشويه الدين واستباحة المال العام والظلم الذي وقع على بعضهم، وحاصروهم حتى سقطت دولتهم.
الغاية من كل هذا أسمى من الإتعاظ بتجربة الإسلاميين في حُكم السودان، إذ المُراد أنه من الصعب إتهام روح الإسلام في عثمان كما أنه من الصعب إتهام روح الإسلام في نفس الكيزان فالدين أحق أن يُتبع ويُحتكم إليه في الحكم على التدين مشروعاً داعياً إلى الله كان أم تديناً شكلياً لعرض من الدنيا إلى زوال.
عصام الحسين