لم يشهد العالم في عصوره الراهنة، بلداً مثل السودان، تكتنفه الفوضى، ويضرب أرجاءه الخراب، على أيدي مجرمين سياسيين، وسائلُهم في ذلك شبابٌ أغرارٌ، يوفرون لهم وسائل تنشيط ِكوامنِ الشر في نفوسهم، من مخدراتٍ ومنشطاتٍ ومغيباتِ وعي، ويأمرونهم لينطلقوا كالضباع الجائعة في الطرقات للتخريب والتدمير، متسلحين بكل وسائل التدمير والتخريب، التي وفروها لهم، وهم يهتفون بشعارات لقونها لهم بشتيمة جيش البلاد باسم الثورة بألفاظ كثيرة مثل ( أولاد الكلب كمان، ناس دقلوا وناس برهان، أنحنا أولاد الشعب، جينكَ يا ابن الكلب) ومثل هذه الهتافات التي وصلت إلى حد سب دين العَسكر وهو دينُ الإسلام، الذي ربما لا يعتقده من حرشوهم على ذلك. ثم من هو أبنُ الكلب الذي عَنوه بإفراد اللفظ؟ فإما أنه جيشُ البلاد وإما هو فرد بعينه في السلطة؟!! ومن يوفرون لهم وسائل التخريب، ويؤلفون لهم الشعارات التي يهتفوه بها، آمنون في متكآتهم، ينظرون إلى ما يفعل أولئك الشباب في تنفيذ تعليماتهم من الخراب والدمار، يعيثون خرابا ودمارا في المرافق العامة والخاصة، وفوق ذلك قتل أفراد الأمن. وأغلب مقاصدهم التي يعلنون عنها في مسيراتهم هي القصر كما يقولون، وعندما تتشجع قوات الأمن وتتصدى لهم بمنعهم من الوصول إليه، فهناك دائمًا بدائل أخرى من مرافق البلد، مثل مراكز الشرطة ومقرات الشركات والمتاجر، ومثل الذي حدث لمقر مجلس الشعب بأم درمان، وما لحق به من تخريب، ومن ضُرب عنده وأصيب من قوات الأمن. ويصف مؤيدوهم تلك الأعمال بأنها سلمية، وتُهدد الجهات الغربية سلطاتنا الحاكمة الضعيفة بعدم اعتراض المتظاهرين السلميين، على الرغم من معرفة تلك الجهات بأنهم غير سلميين، وعلمها بعجز سلطاتنا عن تبني سياسة حزم رادع يوقف أولئك الأشرار عما يفعلون.
نحن البلد الوحيد الذي تُنظم فيه جهاتٌ متعددةُ الأسماء، مليونياتٍ ومواكبَ أسبوعية، بل وتعلن عن جداول لتسيرها رغم أنف سلطات الحكم، مثل ما أعلنت عنه ما تُسمى (لجانَ المقاومة) لما تسميه الأسبوع الثوري، ولجان المقاومة هذه وغيرها فسائلُ من نبتة سياسية واحدة، هي أصلُ قحت منبعًا ومصبا، ولها غرض واحد هو عودة قحت إلى سدة الحكم، لتعيد سيرة ( المؤسس حمدوك) الذي هو تابع لذلك الأصل، وإن أعلن تخليه عنه، وتخليه عنه لا يصدقه من به مسكة من عقل، لأن كل أفعاله تناقض ما يقول، وتدل على ما يفعل ذلك الأصل اعتقادا وعملا.
يحدث كل هذا الخلط في ظل سلطات حكمنا الضعيفة العاجزة، التي يكتنفها الخور، فلا تفعل شيئا مما ينبغي لها فعله لوقف هذا الدمار اليومي الممنهج. ويكفيها خزيا وعاراً قَتلُ آخرِ من قُتل من رجال أمنٍ لا يجدون الحماية الكافية لأنفسهم. فآخر من قُتل على مرمى حجر من مقرها في القصر، بكل وحشية وغلٍ وتشف، الرقيبُ ميرغني الجيلي ضابط الصف بالجيش السوداني، حيث جرده أولئك الأشرارُ من ملابسه واوسعوه سبًا وشتمًا وضربا فقتلوه ومثلوا بجثته، ذلك لأنه قيل لهم إنه عسكريٌ، تابعٌ للقوات المسلحة. فعلوا ذلك لانهم آمنون من العقاب، ولأنهم إن احتجز منهم عددٌ انبرى أنصار الشيطان للدفاع عنهم باعتبار أنهم أبرياء وأن السلطات الانقلابية تجنت عليهم. وإن عجبتُ من موقف مجلس الحكم، أي السيادة وعجزه، فإنني لأعجبُ من موقف رئيسه الأخ الفريق أول البرهان، الذي ما اتخذ خطوة صائبة أيده الناس فيها، إلا ولم يكملها، أو أخذ يجر الخطى بطيئة ًفي تنفيذ ما ينبغي عليه تنفيذه وإكماله. فخطوته التي اتخذها بإقصائه حمدوك وحكومته من سدة الحكم، وذلك أفضل ما فعل، أيده فيها كل الناس وأنا منهم، ما عدا أولئك الذين كانوا في السلطة وفقدوها.
لقد صار فاقدو السلطة أولئك، يصفون خطوته تلك بالانقلاب العسكري، بل حتى إن ممثلي جهات إقليمية ودولية، يتخذون من الخرطوم مقراً لهم، ويقفون سندًا لأهل اليسار، وينسون حيادهم الذي كان ينبغي عليهم التمسك به، يصفون خطوة البرهان التصحيحية بأنها انقلاب عسكري. وقد ساءني جدًا كما لا بد أنه ساء كثيرين مثلي، ما نقل عن (ود لبات) في تغطية خاصة لمؤتمر صحفي من برج الفاتح/كورنثيا، أنه بكل قِحةٍ قال كما نقل عنه 🙁 يجب أيقاف الانقلاب العسكري الذي تم في25 أكتوبر والعودة إلى الشرعية الثورية والوثيقة الدستورية، ولن يُرفع تعليق عضوية السودان إلا بعد إزالة الانقلاب) بكل هذه الصفاقة والقحة والسفور، قال هذا الرجلُ هذا القول وكأنه عضو نشط في قحت. ومثله كثيرون يعرفون أن ما اتخذه البرهان لم يكن انقلابا عسكريا، وقد استيقنت ذلك نفوسهم، ولكنهم من فرط نفاقهم جحدوا به ليقولوا غير الحقيقة، مع أن مصدر مددهم المادي والفكري؛ وهو الولايات المتحدة، قالت إن ذلك ليس انقلابًا. إذن فمم يخشى بعد ذلك البرهان؟ وما ذا يرجو من منتقديه؟ أيرجو منهم أنصافه ليقولوا إنه كان على صواب؟ فإنهم لن يرضوا عنه ولن ينصفوه، مهما فعل وتحمل من إهانتهم، أصالةً عن نفسه ونيابةً عن الجيش الذي هو قائده والذي يشتم ليلا ونهارا، فسيواصلون وصفهم لما اتخذه من خطوة تصحيحية بأنها انقلاب عسكري. وليس أمامه إلا أحد طريقين فإما أن يغير أسلوبه هذا، فيأخذ بزمام الحزم ويترك استرضاء من لن يرضوا عنه مهما فعل، وسيعون إلى إسقاطه بشتى الوسائل، وأن يُكمل ما بدأ من تصحيح وبالضرب صَفحًا عن قحت وسادتِها وأذيالها، وأن يَمضي في طريق انصاف المظلومين عن طريق القضاء، وقد بدأ ذلك فعلاً، وأن يسيرَ غيرَ عابئٍ في طريق جلب من ارتكبوا جرائم جنائية إلى ساحة العدالة، لِيُعاقبَ بالقانون من أجرم منهم ويبرأ من هو بريء، وأن يترك وهمَ الاجماع الوطني الذي تسلمه سلطاته الحكم، إذ ذلك لن يحدث، وأن يمضي في الالتزام بما حدده من أجل زمني لإجراء انتخابات عامة، تسلم بعدها السلطة لمن يُنتخبون مهما كانوا، هذا الطريق، وإما أن يبرئ ذمته ويتنازل لغيره من زملائه العسكريين ليكمل هذه المهمة العسيرة. أما المضي بأسلوبه هذا، فيضيع البلد بما فيه هو نفسه، هذا ما أراه راجيا له الهداية إلى طريق الصواب. ومن يتق الله يجعل له مخرجًا..، ومن يتق اللّه يجعل له من أمره يسرا.
أيوب صديق