سقطت سريعاً..
وكان سقوطاً حتمياً وفقاً لمنطق الأشياء..
فكل جسدٍ له رأس..
وكل رأس – بالضرورة – له جسد يستقر من فوقه… وعلى كتفيه..
إلا أن يُفصل أحدهما عن الآخر..
وفي الحالة هذه لا يكون الرأس حياً… ولا الجسد؛ فهو يعني موت كليهما..
ودولة النمسا تُشبه بالكائن الحي..
ويُقال إنها ذات رأسٍ كبير… وجسدٍ صغير؛ ويعنون بالرأس العاصمة فيينا..
فهي عاصمة ضخمة قياساً إلى مساحتها… وسكانها..
وفي المقابل هنالك دولٌ ذات مساحاتٍ جغرافية – وأعدادٍ سكانية – هائلة..
ولكن رأسها – أقصد عاصمتها – صغيرة..
وكذلك الرأس المتحكم في العاصمة – ومن ثم الدولة بأسرها – له أحجام..
فقد يكون صغيراً… أو كبيراً..
وأعني رأس النظام؛ سواءً كان رأساً واحداً لا يرى في بلده رؤوساً غيره..
أو يراها رؤوساً ذابلة… فإن أينعت فقد حان قطافها..
أو كانت رؤوساً عديدة تمثل رأساً تنظيمياً واحداً؛ كما في الأنظمة الديمقراطية..
أو كانت رؤوساً بلا رأس… أو ما من رؤوسٍ أصلاً..
أي بلا عقول ناضجة ؛ كما في تجربتنا الانتقالية الشائهة ببلادنا… قبل السقوط..
فهي رؤوسٌ كانت تصطخب بلا معنى..
تماماً كما كانت تفعل في أركان النقاش – الجامعية – فلا تنتج إلا صخبا..
فهي لم تكبر مع كبر أصحابها..
وكذلك كانت رؤوس كثيرٍ من رموز العهد البائد؛ محض رؤوس صغيرة..
فهي وقفت عند محطة أركان النقاش… وأصحابها يكبرون..
حتى بعد ثلاثين عاماً في الحكم – وسنواتٍ عديدة قبلها – ظلت رؤوساً طلابية..
فإن لم يكبر العقل غابت الحكمة..
سيما إن كان رأساً حاكماً؛ أو ضمن رؤوس أخرى حاكمة… كلها صغيرة..
ورؤوس فترتنا الانتقالية هذه كانت جميعها صغيرة..
هي ضئيلة – في غرابةٍ شديدة من غرائب الدهر – أفرزتها ثورة عظيمة..
عظيمة عدداً… وعدةً… وإعداداً..
أو هي التي ركَّبت رؤوسها هذه على جسد الثورة العظيم في غفلة من التاريخ..
وفي غفلةٍ من الثورة ذاتها؛ ورؤوسها..
ثم عاثت في الثورة… وفي البلد… وفي الناس… فساداً إدارياً أنتج فشلاً ذريعاً..
فإن استشعرت خطراً – جراء فشلها هذا – صرخت..
صرخت واستصرخت؛ عملاً بالمثل القائل (خدوهم بالزعيق ليغلبوكم)..
أي أجعلوا الصراخ سلاحاً في وجه المنطق..
والمنطق يقول إن الصراخ – والاستصراخ – لو كان يجدي لنفع ذوي الحناجر..
فكل نظامٍ ذي رأس صغير لديه لسان كبير؛ وحنجرة أكبر..
وهذا تعويضٌ غريزي عن ضآلة الرأس… والأداء… والحجة… والمنطق..
فمنطق الأشياء يقول إن الحناجر لا تصرخ طويلا..
فحتماً سيجيء أوانٌ – طال أم قصر – ستصمت فيه… وتسكت… وتخرس..
كما سكتت حناجر هتلر… وناصر… والبشير..
وكما سكتت – كذلك – حنجرة ترمب؛ وحناجر مناصريه الكثر بأميركا..
فحتى الدول الديمقراطية قد تنسحب عليها هذه النظرية..
نظرية الرؤوس الصغيرة… والحناجر الكبيرة ؛ وإن كثرت هذه الحناجر..
فهتلر كانت خلفه حناجر الألمان جميعهم؛ إلا قليلا..
وأيضاً من غرائب التاريخ أن ذا رأسٍ صغير قد يُؤثر في رؤوس كثيرة..
ولكن – وكما ذكرنا قبلاً – إلى حين..
فالدول لا تُبنى بالرؤوس الصغيرة… والحناجر الكبيرة… والقدرات الفقيرة..
ولا مثل هذه الرؤوس – والحناجر – تصمد طويلا..
فنحن نقرأ من كتاب التاريخ؛ والتاريخ – بمنطقه – أكبر معلمٍ لذوي رؤوس..
ولكن من كانت رؤوسهم صغيرة لا يقرأون..
أو من كانوا – كما ذكرنا قبلا – بلا رؤوس أصلاً..
ويظلون – طيلة فرصتهم التي نالوها على حين غفلة – أسرى أمانيهم الصغيرة..
أمانٍ لا تتجاوز كراسيهم التي تحتهم..
ومن فوقها – الكراسي هذه – أجسادٌ ضخمة ؛ ومن فوقها رؤوس صغيرة..
والنمسا تُوصف بأنها دولةٌ صغيرة ذات رأس ضخم..
وثورتنا – الديسمبرية – هذه لا توصيف منطقياً لها سوى أنها ثورةٌ ضخمة..
ذات رؤوس صغيرة..
صغيرة إلى درجة أنها لا تصلح أن تكون رؤوساً فوق أكتاف..
ولا حتى أكتاف أصحابها..
فكان من الطبيعي… والحتمي… والمنطقي… أن تسقط..
فسقطت!!.
صحيفة الصيحة