عندما ذهبت والياً لشمال دارفور، كانت والدتي تبيع العيش فى سوق المواشي ووالدي خفيراً بمحطة الوقود. عندما أكملت المرحلة الابتدائية غادر والدي إلى ليبيا بحثاً عن الرزق لأسرتنا. كانت أسرتنا تتكون من ٦ أشقاء كنت أكبرهم ، وكانت أمي تبدو اختاً كبيرة بالنسبة لي ، فقد كانت وما زالت صغيرة و جميلة ومثابرة. تولت أمي العمل بدكان الوالد فى حي تمباسى، إذ يبدأ يومها بعد صلاة الفجر بنظافة المنزل و الشارع أمام بيتنا، و تجهيزنا للذهاب للمدرسة بعد تناول شاي الصباح ، وكانت تعد فطورنا بعد مغادرتنا ثم تتوكل على الله متجهة نحو الدكان. كنا نستأجر منزلاً فى حي التيمانات، قامت والدتي ونحن صغار بحجز قطعة أرض فى الفناء جنوب المقابر ، وثابرت فى متابعة الإجراءات لدى اللجنة الشعبية و سلطات الأراضي ، واذكر انها قامت بتسوير القطعة بالشوك وبناء راكوبة، وكنا نذهب إليها نهاراً لإقناع اللجنة بالسكن فيها، إلى أن تم تخصيص القطعة لأسرتنا بالرقم ٣ وهو منزلنا الحالي بحي السلام شمال. لم تدخل والدتي المدرسة ولكنها كانت فى وداع ولدها الكبير عام ١٩٩٥م بمطار الفاشر متجهاً إلى جامعة الخرطوم لدراسة القانون، بعد أن باعت بعض مصوغاتها الذهبية لتوفير قيمة تذكرة الطائرة و مصاريف الدراسة بالجامعة. لحقت بولدها الكبير اخته فاطمة للدراسة بكلية الصحة بنفس الجامعة وتوالى توافد ابنائها صديق الذي درس القانون بجامعة النيلين، الترابي الذي درس الآداب بجامعة أمدرمان الإسلامية، فيما درس كل من بحر الدين و عرفة بجامعة الفاشر ، واليوم تستعد الوالدة لحضور مناقشة الدكتوراة الخاصة بالاستاذ بحر الدين حسن عربي. طوال كل هذا المشوار تولت الوالدة العمل بالدكان و السوق من أجل تربية ابنائها و كانت تمنعنا من العمل رغم حاجتنا حتى فى الإجازات حرصاً منها على دراستنا، وبعد تخرجنا واظبت على العمل فى السوق. عندما ذهبت والياً على ولاية شمال دارفور كانت والدتي تعمل ببيع العيش فى سوق المواشي، ووالدي خفيراً بمحطة الوقود، وكنت سعيداً بمواصلتهما ذات العمل أثناء ولايتي، وما زال كلاهما يأكل عيشه من عمله. فى الولاية طلبت من الوالدة الانتقال للسكن الخاص بالوالي، وأذكر أنها قالت لي: يا ولدي لو اشتقت لأمك تعال بيتها نوم عندها. تعاملنا حتى اليوم كأطفال صغار . طوال عام كنت أعرف أنها لا تنوم الليل؛ لأنها تحمل هم ابنها الوالي، وفى الأوقات العصيبة كنت أجدها أول شخص أمامي. حكت لي مرة أنها كانت فى المواصلات العامة عندما سمعت نساء يتحدثن أن الوالي قد منح كل أفراد أسرته عربات، و أن والدته ملأت يديها و جيدها بالذهب، عندما نزلت قالت لهن أنا أم الوالي . كلما أرى كنان أقول فى سري إن نعمة الله عليه امه .. تشبه أمي. انا ابن امرأة عظيمة ابن قمرة عبد الرحمن أسد و خالاتي بخيتة ، روضة ، حواء اسحق و زينب علي، تربيت على أيديهن و لا أجد كلمات للتعبير عن الامتنان الكبير الذي أحمله داخلي لهن، وأنا أيضاً أخ لأخوات أعرف أنهن يحملن لي من المحبة ما لا أطيق، فاطمة وعرفة، وزوج امرأة عظيمة فاتنة عبد الكريم. وتنقلت كثيراً بين النجوم إلى أن استقر بي المقام لدى القمر، وأيضاً صديق نساء عظيمات ورفيقات درب ملهمات. كل عام وانتن أجمل وأفضل و أكثر عطاء.. كل عام وأنتن بخير و سلام و محبة.