في العاشرة من مساء الخميس الماضي صار بيتنا مسرحا لضجيج وصراخ وضحكات متواصلة: قهقهقهقه واواواوا ثم صوت شيء يتكسر، يعقبه بكاء خافت بموازاة ضحكات عالية، واستمرت أحداث الشغب حتى بعد انتصاف الليل، ثم هدأت الأمور دون تدخل من الكجر والتتر، وما حدث هو أن حفيدي: طارق وزياد نزلا عندنا أهلا وسهلا مع والديهما بعد ان حرمتنا الكورونا من التلاقي طوال العامين الماضيين، فامتلأ بيتنا مرحا طفوليا صخابا وكما أوضح الشاعر عمر الطيب الدوش كيف أنه ومن فرط الفرح “كبرت كراعي من الفرح، نُص في الأرض، نُص في النعال” عندما قالت له الحبيبة سعاد “تعال”، فبمزيج من الفرح ولألم وظهري يطقطق من مصارعة طارق وزياد أحسست بأن سنوات عمري قفزت من 39 الى 49
لعلنا الشعب الوحيد في العالم الذي عانى من الشتات المتسارع خلال ربع القرن الأخير، ولا تكاد اليوم تجد بيتا سودانيا واحدا “كامل العدد” أي جميع أفراده يعيشون تحت سقف واحد، ليس مثلا وفقط لأن شخصا من كوستي استقر في كسلا او شخصا من قلع النحل طاب له المقام في رفاعة، بل لأن الهجرة الى الخارج باتت غاية وحلم معظم اهل بلادنا، وتخيل حال شخص مثلي اغترب عن وطنه طويلا ويشده الحنين الى الوطن بدرجة أنه قد يلتقي أمثال هجو او برطم او أردول في بلد أجنبي ويتلقاهم بالأحضان (قال الجعلي المغترب: من شدة ما الغربة حارة تلقى الشايقي في الشارع تحضنه كأنه أخوك)، تخيل حالي وولدي قد يرحل مع عائلته الصغيرة إلى بلد أكثر بعدا من قطر التي أقيم فيها، فقد درس في نيوزيلندا وصار نيوزيلنديا وزوجته وعياله الاثنان يحملون الجواز الكندي، وقد ينتهي المقام بالأسرة كلها في كندا أو نيوزيلندا
تذكرت كيف تعرض أبي الى النقد عندما امتلك بيتا في كوستي، فقد استنكر الأقارب ان يكون له بيت في دار الغربة، ولكنه استقدم معظم أقاربه الى كوستي حتى صارت وطنا للعائلة، ووجدت مشقة بالغة في إقناع أمي بالانتقال من كوستي للإقامة معي في الخرطوم بحري، فشيئا فشيئا صار السوداني يدرك ان كل بقعة منه وطن يتسع له ولغيره، ثم جاءت السنوات العجاف فاغترب مئات الآلاف في الصحاري داخل البلاد بحثا عن الذهب ودفن المئات منهم تحت أنقاض المناجم العشوائية، وركب الآلاف البحر وصاروا كثيرون طعاما للحيتان، وهناك نحو ثلاثة ملايين سوداني يعيشون في مصر بينما ملايين المصريين يحلمون بالهجرة ولو الى بلاد تموت من البرد حيتانها
وأقسى من كل هذا أن يعيش الملايين من أهل بلادي غرباء داخل وطن صار يضيق بأهله بعد ان ابتلاه الله بحكام لئام وصارت السلطة فيه حكرا للعاقين من أبنائه
سأحاول ان أنسى هذه المرارت وأملأ وقتي و”أبِل شوقي” من طارق وزياد وأهلا بالمعارك وسأظل شفاتيا راكزا في مواجهتهما
جعفر عباس