امتنع السودان عن إدانة ومطالبة روسيا بـ( الكف فورًا عن استخدام القوة ضد أوكرانيا، والامتناع عن أي تهديد أو استخدام غير قانوني للقوة ضد أية دولة عضو)، بحسب قرار الأمم المتحدة الصادر بموافقة 141 دولة، واعتراض 5، وامتناع 35 عن التصويت، الأربعاء الماضي..
ورغم أن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة غير ملزم إلا أن شيئًا فريدًا برز هذه المرة.
القرار صدر بدعم دولي كاسح، ومع ذلك ارتفع قلق الولايات المتحدة الأمريكية، والمجموعة الأوربية من الدول التي امتنعت عن التصويت، فوصفتها بأنها ”مارقة“ على الإجماع الدولي، ويتوجب أن تراجع موقفها.
ويهز القلق الأمريكي، حتى الاتحاد الدولي لكرة القدم ”فيفا“، فيقفز إلى قلب الملعب السياسي الدولي، ويدشن عهدًا جديدًا يناقض المبادئ التي ظل يدعو لها بإبعاد الرياضة عن حلبة السياسة، وكان ”فيفا“ يمنع أية إشارات ذات طابع سياسي في ملاعب كرة القدم، مثل ما فعل اللاعب المصري محمد أبو تريكة بعد إحراز هدف ضد منتخب السودان بنهائيات كأس أفريقيا، العام 2008، التي جرت في دولة غانا..
كما صورت الكاميرات عبارة ”تعاطف مع غزة“ بالعربية والإنجليزية مطبوعة في القميص أسفل فانلة المنتخب المصري عندما رفعها وتلقى تحذيرًا من الاتحاد الأفريقي لكرة القدم.
روسيا تتحرك عسكريًا في الفضاء الجيوبولتيكي في المنطقة الحمراء لأمنها القومي، ولا يمثل ذلك إلا ”ميدان المعركة“ وليس ”ميدان الحرب“ فهي ”حرب عالمية ثالثة“، ولكن بإستراتيجيات جديدة تلائم العصر.
وفي سياق المواجهة التقليدية يبرز اسم ”حلف دول شمال الأطلنطي“ المسمى اختصارًا بـ“ناتو“ ويتكون حاليًا من 30 دولة تتضمن الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا الغربية، ثم انضمت إليه أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
وكان ”حلف وارسو“ يحقق التوازن العسكري الدولي، لكنه انهار وانتهت صلاحيته مع سقوط الاتحاد السوفيتي في 1991، ومنذ تلك اللحظة التاريخية الحاسمة تحول الـ“ناتو“ إلى تحالف عسكري وحيد.
والنظرية التي بُنِيت عليها هذه التحالفات العسكرية بين الكتلتين الشرقية والغربية كانت تفترض تغييرًا في المواجهة العسكرية التي شهدتها الحربان العالميتان الأولى والثانية، اللتان في سياقهما العام كانتا أقرب إلى مواجهة بين تحالف عسكري عريض بين ضفتي الأطلنطي ضد دولة واحدة ”ألمانيا“ مسنودة بدول المحور التابعة مثل النمسا، والإمبراطورية العثمانية، ودول أخرى في الحرب العالمية الأولى، ثم إيطاليا، واليابان، ودول أخرى في الحرب العالمية الثانية.
ومع اندثار القوة العسكرية الضاربة لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وانشطارها إلى غربية وشرقية، وتقسيم أوروبا بين حلفي ”ناتو“ بقيادة أمريكا و ”وارسو“ بقيادة الاتحاد السوفيتي، تحولت المواجهة العسكرية والاقتصادية إلى خريطة جديدة تشطر العالم إلى كفتي ميزان أقرب أن تكون متعادلتين إلى درجة أن السباق تَغّول حتى في استكشاف الفضاء، ففازت روسيا بأول مركبة فضائية -غير مأهولة- تلامس سطح القمر، العام 1959، ثم أول رحلة للإنسان في الفضاء، العام 1961، بينما فازت أمريكا بأول هبوط لإنسان على سطح القمر 1969.
وخلال المواجهة بين حلفي ”ناتو“ و“وارسو“ حافظ الطرفان على ”ميدان المعركة“ خارج حدود الدول من عضوية الطرفين، فكانت الحرب الكورية، ثم حرب فيتنام، ثم أفغانستان، بينما تمتعت الدول الأعضاء في الحلفين بسلام عوَّض خسائرهما المليونية الباهظة في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ومع زوال حلف وارسو فقد نظيره ”ناتو“ منطق توازن القوى الذي يبرر مزيدًا من الانفاق العسكري في تطوير الأسلحة الإستراتيجية، وفقد حماس السياسات التوسعية التي تحاول زيادة عدد الدول الأعضاء لتوسيع مساحات الانتشار الجغرافي.
وتحول حلف ”ناتو“ إلى ما يشبه ”الحلف النائم“ باستعارة مصطلح ”الخلايا النائمة“ الذي ظهر في ثنايا الحرب ضد الإرهاب.
ثم تطور الوضع بظهور الصين كقوة اقتصادية تقفز إلى المرتبة الثانية عالميًا بسرعة انطلاق تؤهلها لمنازعة القوة الاقتصادية الأولى أمريكا، في المستقبل المنظور.
وفق هذه الخاريطة؛ بدأ التحور الجيني في نظرية ”الأحلاف العسكرية“ من الإطار التعاقدي ”حِلف له ميثاق وقيادة ومقر“ الملزم إلى التعاضد المرن وفق ظروف ”ميدان المعركة“، لا ”ميدان الحرب“.
وفي الحرب العراقية الأولى ثم الثانية -على سبيل المثال- خاض ”ميدان المعركة“ تحالف دولي لم يحمل اسم ”ناتو“، من رفقاء لا يرتبطون بمواثيق بل بمصالح ظرفية حددها ”ميدان المعركة“.
وفي الحرب ضد تنظيمي ”القاعدة“ و ”داعش“ رغم تمدد ”ميدان المعركة“ من أفغانستان إلى ليبيا مرورًا بالعراق وسوريا، إلا أن المواجهة لم تلتزم بأحلاف تعاقدية بقدر ما كانت تحالفات ظرفية مرتبطة بـ“ميدان المعركة“ لا ”ميدان الحرب“.
والآن، تسيطر الحرب الروسية الأوكرانية على مسرح الأحداث والأخبار، ولكنها وفق هذا المنظور، لا تمثل إلا ”ميدان المعركة“ العسكرية، بينما ”ميدان الحرب“ الحقيقية تغير كليًا ليصبح اقتصاديًا بالدرجة الأولى، وبين أمريكا والصين تحديدًا، بالهدف الإستراتيجي ذاته الذي تلعب عليه الحروب العسكرية، وهو السيطرة.
وبهذا الفهم يصبح الشكل ”التعاقدي“ الصارم لحلف ”ناتو“ حملًا ثقيلًا يرهق السباق العالمي الجديد نحو السيطرة الاقتصادية.
وبالعودة إلى قائمة تصويت الأمم المتحدة ضد روسيا، ينكشف الوجه الجديد للمواجهة، فالتصويت لم يكن مع روسيا وضدها مبدئيًا، بل موازنة المصالح الاقتصادية في الموقف مع روسيا أو ضدها، كما هو الحال في موقف السودان، والعراق، والجزائر، بالامتناع عن التصويت بموازنة المصالح الاقتصادية -لا العسكرية أو الأيدولوجية- لكل دولة من الثلاث مع طرفي المعركة.
ويأتي اهتمام أمريكا وأوروبا بقائمة التصويت لأنه يرسم خريطة الـ“مدار“ Orbit لا ”الحلف“، فقد انتهت صلاحية الأحلاف العسكرية المنظمة.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز
إرم نيوز