لعبت روسيا دوراً عالمياً متعاظماً بعد بزوغ نجم رئيسها الحالي فلاديمير بوتين، الذي نقل بلاده من حالة الضعف والهوان التي شهدتها فترة الرئيس بوريس يلتسين بعد تفتت كيان اتحاد الجمهوريات السوفيتية، وباعتبارها اكبر دول العالم مساحة واكثرها تعبيراً عن امجاد القطب الشرقي الذي تفكك، والذي كان يمثل المعادل المكافيء للقطب الغربي الذي يقود حلف الناتو، تقاتل جمهورية روسيا الاتحادية من اجل ان تُبقي شعلة ذلك الزخم العالمي للاتحاد السوفيتي مُتقدة، رأينا كيف قفز بوتين بهذه الجمهورية الاتحادية في غضون اقل من ربع قرن الى موقع منافس للولايات المتحدة الامريكية – القطب الأوحد، فدخل بها هذا الرجل المتخصص والمتقن لفنون الكاراتيه، والخارج من مؤسسات جهاز مخابرات بلاده، الى حلبة الصراع الدولي الدائر حول الحصول على الموارد الطبيعية، فتمدد في البلدان الافريقية ذات الوجود الاستراتيجي المؤثر، ما اثار حفيظة فرنسا وجعلها تجزع وتئن من وطأة الدب الروسي الجامدة على بلدانها الفرانكفونية الصميمة.
علاقة السودان بالاتحاد السوفيتي برزت بوضوح مع المحاولة الانقلابية للحزب الشيوعي السوداني، التي نجحت في حكم البلاد لمدة ثلاثة أيام في يوليو مطلع العقد الأول من سبعينيات المئوية الماضية، وقتها بذل الحزب الشيوعي الأب القائد لحكومات اتحاد الجمهوريات السوفيتية، جهداً دبلومساياً ملموساً، لاثناء الرئيس السوداني جعفر نميري عن المضي قدماً في تنفيذ احكام محكمته العسكرية، القاضية باعدام كوكبة نيّرة من كوادر الحزب الشيوعي السوداني شاركت في المحاولة الانقلابية الفاشلة، ابرزهم عبد الخالق محجوب وبابكر النور سوار الدهب والشفيع احمد الشيخ، ويقال أن هذا الأخير قد حزنت عليه النخبة الشيوعية السوفيتية حزناً كبيراً، بعد أن باءت محاولاتها المضنية في انقاذ رقبته من حبل المشنقة، كيف لا وهو من القلائل الحاملين لوسام لينين الذي لا يمنح الا لمن افلح وكسب اعجاب صفوة الفكر الماركسي بأعلى هرم الايدلوجيا اللينينية في موسكو.
ومن افضال العلاقات السودانية السوفيتية أن حصلت المؤسسة العسكرية السودانية على دبابات روسية متقدمة في كفاءتها القتالية مازالت موجودة بسلاح المدرعات، كذلك استنفع الطلاب السودانيون من مِنح الدراسات الجامعية وفوق الجامعية التي رفدت البلاد بكفاءات علمية في الطب والهندسة والطيران، وتعتبر الجامعات الروسية والاوكرانية من مؤسسات التعليم العالي المشهود لها عالمياً، اضمحلت تلك العلاقات الثنائية بعد أن اتجه الرئيس الراحل نميري غرباً، وبعد أن اسس لصداقات حميمة مع رؤساء امريكا من امثال جيمي كارتر ورونالد ريغان، أمريكا التي عجزت عن الدفاع عن حليفتها اوكرانيا واكتفت بالشجب والادانة، فربما التراخي ورمادية المواقف الامريكية تجاه البلدان المستجدية للعون الامريكي، هو ما دعا الرئيس المخلوع البشير باللجوء لروسيا قبل أن يلفظ أنفاسه السلطوية الأخيرة، ثم تبعه على ذات الطريق النائب الأول لرئيس المجلس السيادي.
مع نهوض الدب الروسي من قمقمه الجليدي، وبعد أن غزت الصين الشيوعية بلدان الغرب الليبرالي باقتصادياتها المنافسة، سيكون الطريق معبداً امام البلدان الافريقية اليائسة من الوعود الامريكية والفاقدة للأمل بسبب المماطلات الاوروبية، وسالكاً لربطها ببكين وموسكو لخلق علاقات اقتصادية تقيها شر الغطرسة الامريكية وقسوة الغنج والتمنع الاوروبي، فتطورات الاحداث بالجزء الشرقي للكرة الارضية سوف تعيد رسم الخارطة الجيوسياسية العالمية، فالوهن الاوروبي والخزلان الامريكي لا محال سيعجّل بهرولة بعض الدول الافريقية، للاحتماء بحضن التنين الصيني والاستبراد تحت جبال ثلوج الدب الروسي، هرباً من حر شمس اليانكي الامريكي الساطعة عمودياً على جغرافيا خط الاستواء، فالبراغماتية اصبحت دين وديدن عالم اليوم المنتهج للنهج الميكيافيلي بامتياز، ويبدو أن شعارات الديمقراطية الليبرالية (الرومانسية) لا تطعم خبزاً ولا ترسل البواخر المحملة بالقمح لميناء بورتسودان، فبعد كل هذا السرد التاريخي المقتضب هل ينجح السودان في بناء علاقة متينة مع روسيا؟؟
اسماعيل عبدالله
صحيفة التحرير