د. عبد الله علي إبراهيم
راج الزعم، أو العقيدة، إن الإدارة الأهلية القائمة فينا منذ آخر عشرينات القرن المضي هي إرث سودني تليد في الحوكمة. ولا أعرف كتاباً طعن في صميم الإدارة الأهلية كنظام تقليدي خالص السودانية مثل كتاب جعفر محمد علي بخيت “الإدارة البريطانية والحركة الوطنية السودانية” (١٩٨٧). فكان ربما أول من نبه لفبركة الإنجليز للإدارة الأهلية. وهو المفهوم الذي صار من المعلوم بالضرورة في أدبيات مدرسة ما بعد الاستعمار. فكشف الغطاء عن طرائق الاستعمار لهندسة هذه الإدارة بعد ثلاثين عاماً من احتلالهم للسودان لم يحتاجوا لها خلالها إلا في حدود شياخات مرهقة بجمع الطلبة. وسماهم الناس لهمتهم في جمع الطلبة ب”كلب الحكومة”. وخلت الوظيفة من الجاذبية حتى أنهم كانوا يختارون لها نفراً من رقيقهم ليبتلوا بها.
فلما كشرت طبقة الأفندية أنيابها للإنجليز في ١٩٢٤ خشي الإنجليز على أنفسهم من حلف محتمل بينهم وبين الريف الذي فيه نهايتهم. فسبق الإنجليز للريف يتغدون بالمتعلمين قبل أن يتعشوا بهم.
أحسن جعفر بخيت، من فوق إطلاع دقيق على نقاشات الإنجليز فيما بينهم حول تلك الإدارة، في بيان سلبية الإداريين الإنجليز في الريف حيال مشروعات مركز الحكم في الخرطوم لقيام الإدارة الأهلية بعد ١٩٢٤. جاء المركز بمشروع طموح لبناء هذه الإدارة ك”حكم غير مباشر” لا مثل “الإدارة الأهلية” التي انتهينا إليها. وروج للمشروع ريقنالد ديفز، مدير قلم المخابرات، الذي أراد تطبيق ما تعلمه مبعوثاً من السودان إلى نيجيريا، وهو منح الإداري الأهلي سلطات إدارية ومالية وقضائية إسوة بما رأى في نيجيريا، منبع ممارسة ذلك النوع من حكم الأهالي. فلم يجد المشروع قبولاً من الإداريين في الحقل في السودان. ولم يجدوا ما يمنحونه الإداري الأهلي سوى ردمه بالقضايا الكثيرة التي أثقلت كاهل المفتشين لينظر فيها.
كان من رأي الإداريين الإنجليز في الريف أن السودان لم يشهد حكومة أهلية معززة كنظم عديدة في أفريقيا. ومرد ذلك أنه قامت فيه بيروقراطيات مركزية مثل التركية والمهدية ثم الإنجليز أخضعت الحوكمة التقليدية الأهلية لسلطانها. فقيدت تلك البيروقراطيات الإدارات التقليدية بحصر شغلها في جمع الطلبة وضبط الأمن في نطاقها، أو الجهاد في المهدية. وبالنتيجة لم يكن لتلك الإدارات عوائد في التصريف المالي أو التنفيذي متوارث باستثناء البادية. وبالنتيجة لم تقم الإدارة التقليدية في السودان على “الحكم غير المباشر” كما في فقه لورد لوقارد الذي استمده من خبرته في إدارة متبقيات سلطنة صوكتو. وكانت السلطنة تمتعت بصلاحيات تنفيذية وقضائية أوسع مما كان بوسع الحاكم التقليدي في السودان. فالذي قام فينا بالفعل هو “إدارة أهلية” وصفها جعفر بخيت ب”العارجة” لا “الحكم غير المباشر”، ومرجعها إلى مفتش المركز في الصغيرة والكبيرة. وتجري عليهم مكافأتهم من غرامات المحاكم ومن جُعلهم في الطلبة التي جمعوها.
كان أولئك الإنجليز، وهم على الأرض، قد عرفوا أن الريف الذي يقومون بأمره ليس هو نفس الريف الذي تتكلم عنه الخرطوم المهجسة بثورة المدينة. فقد اتفق لهم أنهم هم أنفسهم من غيروا الريف بمشروعاتهم فيه تغييراً لم يعد من الرشد السياسي أن ترجع به إلى ماض حقيقي، أو متخيل، له. فلم يعد الريف بعد ذلك التغيير هو الريف القبائلى الخالص الذي في خاطر الخرطوم. فاختلط بفضل مشروعاتهم تلك القبائلي بالعمراني (أي من تحول للريفيين إلى الزراعة في مشروع القاش مثلاً) حتى تعذرت إدارته إلا بأخذ هذه الحقيقة عنه مأخذاً جدياً.
وخلاصة الأمر أن الإدارة الأهلية، كما خرجت لنا بعد تشريعات محمومة في أعقاب ثورة ١٩٢٤، لم تكن في فينا منذ الأزل. فعمل الإنجليز بدونها لثلاثة عقود وحين اضطرتهم لها تطورات سياسية محرجة كان عليهم اختراعها كما فصل جعفر بخيت في رسالته الجامعية. بل سبقه بيلي، مدير كسلا، للقول إنه، حين لم يسعفهم الحظ في أول عهدهم بوجود من ينتمي لأسرة حاكمة في جماعة ما، تبرعوا باختيار واحد منها لإدارة شأنها ممن سماهم “القام جديد” (upstarts). وقال إنه حين اكتشفوا أنه تكن للجماعة تقاليد في الحكم كلفوا من قاموا جديداً هؤلاء باختراعها وفق ما بدا لهم. فلما لم يملأ من اختاروه ناظراً على الهدندوة مركزه وقع اختيارهم على ترك الجد ليحل محله في ١٩٢٧.
أصل كتاب جعفر بخيت (١٩٨٧) رسالة جامعة من جامعة لندن في ١٩٦٥. أي أن فكر الرجل كان فينا لثلثي قرن تقريباً بصورة أو أخرى. واشتهر الرجل، من جهة أخرى، بأنه هادم لذات الإدارة الأهلية مما يغري بقراءته ومعرفة ما به. ولم يقرأه مع ذلك أحد. فما نزال على العقيدة العامية بأن الإدارة الأهلية القائمة فينا هي إرثنا في الحكم منذ الأزل. ولم نكلف خاطرنا أن نقلب صفحات الرجل الذي كأنه قال إن عقيدتنا هذه حديث خرافة، وأن الإنجليز هم من اخترعوها من عدم تقريباً: من يوم كان الإداري الأهلي كلب الحكومة إلى أن صار ناظراً يشار له بالبنان الحداثي.
صحيفة التحرير