سراج الدين مصطفى يكتب :نقر الأصابع

على طريقة الرسم بالكلمات

قناة البلد:

قبل أيام قلائل كنت أتجول مع ابني (مصطفى) في حي القوز بالخرطوم حيث نسكن .. حيث شاهدنا بعض الصبية في ذات عمره وهم يلعبون الكرة في أحد زقاقات الحي .. توقّفنا قليلاً عندهم ثم ذهبنا .. فقلت له (إنت أحرف منهم كلهم) .. فقال لي (لا تحكم على الكتاب من الغلاف) .. كان رده بمثابة درس بالنسبة لي .. وبدلاً من يتعلم مني .. تعلّمت منه تلك الحكمة التي خرجت من لسان طفل لم يصل حتى الآن عامه الحادي عشر.

ورغم ما قاله ابني مصطفى وعمق حكمته .. ولكني أود أن أخالفه الرأي قليلاً فيما يخص قناة البلد التي ربما أجبرتني بأن أقول بأنني سأحكم عليها من الغلاف.. فمن خلال الترويج البرامجي للقناة أكاد أجزم بأن قناة البلد ستكتسح الجميع من خلال برمجة قوية وفيها الكثير من المجهود الخلاق.

كل الترويجات التي شاهدتها تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ القناة وإدارتها البرامجية اجتهدت في تقديم خدمة برامجية ذات مُحتوى عالٍ ومشوق للحد البعيد

أسرار بابكر:

لم أكن مخطئاً أبداً ولا مغالياً ولا متشدداً حينما قلت إن الفنانة أسرار بابكر ذهبت و(شالت معاها) أسرار الغناء .. وحينما أعاين للمشهد الفني الراهن أدرك بأنني كنت على حق لا يطاله الشك .. لأن أسرار بابكر وضعت بصمتها من حيث القدرات الصوتية والأدائية وأصبحت (استايلاً) غنائياً يصعب تكراره وتستحيل إعادة نسخه .. فهي كانت نسخة واحدة .. لا نملك الا أن نتحسّر عليها .. وذهاب أمثالها هو نوع من الغضب الإلهي على الوسط الفني .. ويبدو أن الله سبحانه وتعالى سلط عليه من لا يخافه ولا يتورع في بث السموم في وسط يفترض أن يكون قائداً ورائداً وراتقاً للنسيج الاجتماعي.

ناجي القدسي:

في ذات مرة سألت الموسيقار الراحل ناجي القدسي في حوار أجريته معه بمنزل صديقه الشاعر محمد أحمد سوركتي، وقلت له هل أنت نادم على هجرتك من السودان؟ فقال لي الرجل والدمع كاد أن يطفر من عينيه (أنا في حالة ندم تام وحزن كبير على كل الوقت الذي أهدرته في اليمن)، لأنني فقدت الغذاء الروحي ولم استطع أن أقدم أعمالاً غنائية جديدة للبلد الذي غنيت له:

تقول لي من بكرة .. مهاجر لوطن تاني

دا أنت القلت ما بتفوت .. وطن بالعزة رباني..

هكذا نحارب مبدعينا ونتسبّب في هزيمتهم نفسياً ونساهم بشكل فاعل في اتخاذهم لقرار الهجرة .. لذلك فقدنا معظم مبدعينا بسبب الإهمال وعدم التقدير .. وموسيقار بقامة ناجي القدسي كان من الممكن أن يغير في شكل الأغنية السودانية ويقدم لها الكثير ولكنه هاجر بسبب الظلم والإهمال حتى رحل عن الدنيا وهو في كامل حالات الحزن والتشرد دون أدنى تقدير ولم يجدنا حتى وهو في آخر لحظات حياته وهو يعاني الغربة في الوطن الذي قدم له الروائع.

الراحل صلاح بن البادية:

أغنية واحدة بقامة ووزن (كلمة) كافية لأن تؤشر على عبقرية المبدع الراحل صلاح بن البادية .. وتلك الأغنية لو لم يغن غيرها سنعترف به فناناً جميلاً له مقدرة أن يبدع ويقدم غناءً مختلفاً ويحتشد بالجمال والتطريب والدهشة اللا متناهية.. ومن كانوا يسألون عن سر التألق الدائم لهذا الفنان الجميل عليهم التوقُّف في تفاصيل حياته الشخصية والمهنية وتقليب دفاترها جيِّداً لاستقراء التاريخ وكيفية بناء الشخصية المُبدعة من خلال الالتزام الأخلاقي.. فهو كان نُموذجاً للفنان المُلتزم الذي لم تُلوِّث سُمعته أي شائبة ولم نسمع عنه ما يشين طيلة فترة وجوده في الوسط الفني أو حياته ككل.. ولعل ذلك الالتزام والاحترام انعكسا على تجربته الفنية ذات القيمة العالية والألق المستمر الذي لم يفتر مده حتى بعد وفاته.

تأثر الراحل صلاح بن البادية بالجو الصوفي والالتزام الأخلاقي الأسري، لذلك ضجت أغنياته بالجمال والقدرة على اختيار المفردات ذات البعد الوجداني المؤثر ، بالنظر لقائمة الأغنيات التي تجمعه مع الشاعر الكبير محمد يوسف موسى نجد أنه كان يتقن اختيار كلماته بقدرات مذهلة ويضع لها الألحان التي تناسبها وتظهرها بمظهرها الحقيقي الذي أراده شاعرها.

صحيفة الصيحة

Exit mobile version